في 9 أبريل الماضي نشرتُ هنا مقالةً بعنوان «معضلة بايدن»، تناولتُ فيها مأزقَ الرئيس الأميركي نتيجةَ تزايد الضغوط الداخلية عليه بسبب تداعيات العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة على الرأي العام الأميركي الذي بدأت دائرة التأييد فيه للقضية الفلسطينية تتسع باطراد. ولخصتُ المعضلةَ في اضطراره للموازنة بين مزيد من التشدد ضد إسرائيل كي لا يخسر أصوات المتعاطفين مع الفلسطينيين من جانب، والحفاظ على دعمه لها من جانب آخر حتى لا يخسر دعم الباقين على تأييدهم لها. وفي حله لهذه المعضلة غيّر بايدن من لهجة خطابه السياسي باتجاه ذكر انتقادات لأداء إسرائيل في الحرب ونصحها بضرورة التقليل من أعداد القتلى، كذلك أعلن معارضتَه لقيامها بعملية في رفح ما لم تضع خطة محكمة لإجلاء المدنيين.
ومع ازدياد ضراوة العمليات العسكرية الإسرائيلية واشتداد موجة المعارضة في الداخل الأميركي لسياسة بايدن، خاصة بين شباب الجامعات، بدأت إدارتُه تتخذ خطوات أكثر تشدداً، كما في التصريحات الخاصة بفرض عقوبات على 3 وحدات عسكرية إسرائيلية يُشتبه في ارتكابها انتهاكات لحقوق الإنسان في الضفة الغربية، وصولاً إلى تصريحاته الأخيرة على شاشة CNN والتي حذّر فيها إسرائيلَ من أنَّ أي هجوم كبير على مدينة رفح سيؤدي إلى قطع إمداد إسرائيل ببعض الأسلحة، وذلك بعد أن قرر أنها استخدمت الأسلحةَ الأميركيةَ في قتل المدنيين.
ويُلاحظ أن بايدن وكبار معاونيه كانوا حريصين على تأكيد وحدة الهدف مع إسرائيل، واستمرار دعمها الأكيد، مع خلاف في بعض التفاصيل، إذ لا تعترض الإدارة الأميركية على عملية برية في رفح، لكنها تريد أن ترى خطةً لإجلاء السكان المدنيين. وعندما صرح بايدن بأنه سيوقف إمدادَ إسرائيل ببعض الأسلحة إن تجاوزت الخطوط الأميركية الحمراء، حرص على أن يؤكد أنها لم تتجاوزها بعد! وأن الالتزام الأميركي بدعم أمن إسرائيل ليس موضعاً لأي شك. ومع كل هذا الحذر فقد أضافت تصريحاتُه الأخيرة بعداً جديداً لمعضلة التوازن التي يواجهها تَمثَّل في الهجوم الضاري الذي شنته عليه قيادات بارزة داخل الحزب الجمهوري، إذ أعلن نائب «جمهوري» أنه يُخطط للتقدم بطلب لعزل بايدن، واصفاً إنذارَه لإسرائيل بأنه جريمة تستوجب العزلَ وإساءةُ استخدام للسلطة! وحذّر السيناتور الشهير ليندسي جراهام مِن أن تهديدات بايدن بحجب الأسلحة يمكن أن تدمر الاستقرار المحتمل في الشرق الأوسط، وأن هذه التهديدات ستدفع المنطقة (أي الشرق الأوسط) والعالم إلى التشكك في جدوى العلاقات مع الولايات المتحدة، بل إن 26 عضواً «ديمقراطياً» بمجلس النواب أعربوا عن قلقهم من المغزى الذي يمكن أن تفهمه «حماس» وغيرُها من التنظيمات الإرهابية مِن تهديدات بايدن.
وتوضح كلُّ هذه المؤشرات مدى تعقّد المعضلة التي يواجهها بايدن، والتي ستؤدي بالتأكيد إلى مزيد مِن الحذر في أي خطوات قادمة تتخذها الإدارة الأميركية. وليس بعيداً تراجع هذه الإدارة عن فرض عقوبات على الوحدات الإسرائيلية المُتَّهمةُ بانتهاك حقوق الإنسان، وكذلك تقرير الخارجية الأميركية الذي خفف تصريحات بايدن بخصوص استخدام إسرائيل للأسلحة الأميركية.. إذ استخدم التعبير: «ربما» تكون قد انتهكت القانون الدولي الإنساني.. وأشار إلى عدم وجود أدلة «كافية» على ذلك. وبالتأكيد فإن بقاء هذا التردد من عدمه سيعتمد على تطور ميزان الرأي العام الأميركي خلال هذه الشهور الحاسمة التي تسبق الانتخابات الرئاسية القادمة.

*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة