من المفترض أن تكون الجامعات الأميركية ملاذاً آمناً لممارسة حرية التعبير والمناقشة الهادئة والمتحضرة للقضايا المثيرة للجدل التي تدعم التعلم. ولكن هجوم «حماس» على إسرائيل في السابع من أكتوبر على إسرائيل، والرد الإسرائيلي بالهجوم على غزة، أديا إلى انتشار الوعي بين الطلبة بهذه القضايا، وإلى احتجاجات صاخبة. فبعض المتظاهرين يدعمون الفلسطينيين، ويصفون هجوم إسرائيل على غزة بالإبادة الجماعية، في حين يدعم آخرون إسرائيل، ويتهمون منتقديها بمعاداة السامية. وبين هذا وذاك، وجد رؤساء الجامعات أنفسهم عالقين وسط هذه الاضطرابات، يحاولون الحفاظ على النظام في الجامعات دون منع حرية التعبير. كما اضطر بعضهم إلى شرح سياساتهم للكونجرس، وتوضيح لماذا لم يبقوا على جامعاتهم تحت السيطرة. وضمن تداعيات هذه القضية، استقال اثنان من رؤساء الجامعات تحت ضغط الكونجرس. ولم تشهد الجامعات الأميركية مثل هذا النوع من الاضطرابات الطلابية منذ الاشتباكات التي شهدتها أميركا بسبب حرب فيتنام قبل أكثر من 50 عاماً.
الاضطرابات بدأت مباشرة، بعد هجوم «حماس» في 7 أكتوبر، إذ أصدرت «مجموعة هارفارد للتضامن مع فلسطين» رسالة حمّلت فيها «النظامَ الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن أعمال العنف الجارية». ثم سرعان ما انتشرت انتقادات الطلبة لإسرائيل مع قصفها واجتياحها لغزة. والواقع أن المشاعر المؤيدة للفلسطينيين كانت موجودة في الجامعات منذ سنوات، وخاصة مع سعي «حركة مقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها» إلى إقناع الجامعات والمؤسسات الأخرى بمعاقبة إسرائيل على معاملتها للفلسطينيين، غير أن جهود المقاطعة هذه ظلت مقتصرة على مجموعات طلابية صغيرة ومجموعات أخرى، إذ ظل معظم الأميركيين غير مدركين عموماً للكيفية التي تعامل بها إسرائيل الفلسطينيين، ثم أثارت حرب إسرائيل الشاملة على غزة القضية بالنسبة للطلبة الأميركيين وآخرين، إذ أصبحت أخبارها تتصدر الصفحات الأولى للجرائد ونشرات الأخبار اليومية عبر الولايات المتحدة.
الشعارات الداعمة للفلسطينيين ظهرت في الجامعات عبر كل أميركا. وكان ذلك أمراً غير مألوف. ومع تنامي الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين، بدأت جماعات يهودية وجامعات أخرى تشتكي من أن تلك الاحتجاجات معادية للسامية بل وتهدد سلامتها. وتساءل خريجون سابقون حول ما إن كان مسؤولو الجامعات يفعلون ما يكفي لحماية الطلبة، ثم أصبحت القضية علنية أكثر في ديسمبر، حينما عقد أعضاء مجلس النواب الأميركي جلسة استماع خاصة استدعوا إليها رؤساء جامعة هارفارد، و«معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، وجامعة بنسلفانيا للإدلاء بشهاداتهم. وبعد سماعهم عن المناقشات الواسعة في الجامعات، رأى أعضاء في الكونجرس أن هذه القضية قضية سياسية محتملة قد تكون مفيدة لهم في حملة الانتخابات الرئاسية القادمة في نوفمبر.
فاستدعى «الجمهوريون» في الكونجرس رئيسات الجامعات المرموقة الثلاث من أجل شرح ما يفعلنه بشأن معاداة السامية، وسألتهم النائبة إليز ستيفانيك عما إن كان أي شخص ممن دعوا في جامعاتهن إلى إبادة جماعية لليهود سيعاقَب. فأجابت الرئيسات الثلاث عموماً بأن ذلك «يعتمد على السياق». وهذا جواب متوقع في العالم الأكاديمي، وذلك لأنهن كما أوضحن لاحقاً، يميّزن بين الخطاب، الذي يتمتع بالحماية والممارسة، التي لا تتمتع بها. ولهذا، فإنه لا توجد إجابة بسيطة. وبالمثل، فحينما سُئلت عن رأي جامعة هارفارد في هجوم «حماس»، قدّمت رئيسة جامعة هارفارد كلودين غاي إجابة تراعي السياقات والاختلافات الطفيفة، ولا تدين «حماس» بقوة. وهو ما أغضب ستيفانيك، وأعضاء آخرين في الكونجرس كانوا يريدون إجابة صريحة وحاسمة. والمصير نفسه لقيته رئيسة جامعة بنسلفانيا إليزابيث ماجيل. ففي محاولتها الإجابة عن أسئلة ستيفانيك الحادة حول ما إن كانت جامعة بنسلفانيا تتصدى لمعاداة السامية، توسّلت «ماجيل» بمبدأ حرية التعبير، ولكن «ستيفانيك» لم يرضها هذا الجواب. كما اعتبر خريجون سابقون ومتبرعون لجامعة بنسلفانيا أنها لم تكن قوية بما فيه الكفاية في إدانة معاداة السامية، وطالبوا بطردها. وقد حاولت الرئيسة «جاي» أن تشرح لاحقاً أنه كان عليها أن توازن وتوفّق بين حرية التعبير والسلامة في الجامعة، ولكن كل ردودهن أثارت انتقادات لاذعة من الكونجرس وغيره، وخاصة بعض المتبرعين الماليين للجامعات. والواقع أنه في الفصول الدراسية تستحق مثل هذه الأسئلة البسيطة إجابات معقدة، ولكن ستيفانيك والمانحين كانوا يريدون إدانات واضحة وبسيطة لـ«حماس» ومعاداة السامية.
وفي نهاية المطاف، اضطرت رئيستا جامعتي هارفارد وبنسلفانيا للاستقالة من منصبيهما، لأن الإجابات التي قدّمتاها على الأسئلة لم تكن واضحة وبسيطة في التعبير عن دعمهما لإسرائيل، ووعودهما بمعاقبة معاداة السامية. إذ كتب 70 عضواً في الكونجرس رسالة تدعو الرؤساء الثلاثة إلى الاستقالة. والأهم من ذلك أن إدارات الجامعات دائماً ما تراعي آراء الأمناء والمانحين الآخرين، لأن دعمهم المالي ضروري لبقاء الجامعة. وقد أعلن بعض المانحين بوضوح أنهم يعتزمون سحب دعمهم المالي، لأنه كان ينبغي على رؤساء الجامعات أن يكونوا أكثر قوة وضوحاً في إدانة معاداة السامية. ولكن رئيسة «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» سيلي كورنبلوث لم تستقل وحاولت شرح آرائها. فقالت إنه إذا تحوّلت الانتقادات (لإسرائيل) إلى سلوك يستهدف أفراداً لأنهم يهود، فإن ذلك سيستوجب العقاب. وأضافت كورنبلوث، وهي يهودية، أن «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» أدان «حماس» أيضاً، وهو ما ساعد على إنقاذ وظيفتها.
وفي الأثناء، اتخذ العديد من رؤساء الجامعات تدابير غير مألوفة للتعامل مع الاضطرابات التي تسببت فيها الاحتجاجات في جامعاتهم. ففي جامعة براون، أُوقف 20 طالباً بسبب تنظيمهم اعتصاماً مؤيداً للفلسطينيين يطالب بوقف لإطلاق النار، ومطالبتهم بسحب الاستثمارات من شركات لصناعة الأسلحة تزوّد إسرائيل بالذخيرة والأسلحة. وفي جامعة ميشيغن، اعتُقل طلبة بسبب احتجاجاتهم المؤيدة للفلسطينيين. وفي جامعة برانديز وجامعة جورج واشنطن وجامعة رتجرز، عُلِّق نشاط مجموعات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات بسبب أنشطتها المعرقلة. وفي غضون ذلك، اعترفت رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق، المولودة في مصر، أمام لجنة من الكونجرس، بوجود بعض معاداة للسامية في الأنشطة المؤيدة للفلسطينيين. لا بل إنها ذهبت إلى أبعد من ذلك في الـ18 من أبريل، حينما أقام بعض الطلبة مخيماً كبيراً وسط الجامعة، وطالبوا جامعة كولومبيا بسحب علاقاتها التجارية مع إسرائيل. فقد طلبت منهم المغادرة لأنهم كانوا يعرقلون الأقسام الدراسية، وغيرها من الأنشطة المشروعة في الجامعة. وحينما رفضوا ذلك، اتصلت بشرطة مدينة نيويورك التي أبعدتهم بالقوة، وفكّكت مخيمهم. كما اعتقلت الشرطة 108 طلاب رفضوا المغادرة، في حين أوقفت جامعة كولومبيا 15 طالباً عن الدراسة.
هذه الاحتجاجات، ومعظمها كانت من تنظيم طلبة، ولكن أيضاً آخرين، أثارت قلق مستشاري بايدن السياسيين الذين لاحظوا أن بعض «الديمقراطيين» الذين يدعمون بايدن عادة باتوا يعارضونه الآن بسبب دعمه القوي لإسرائيل. وهم قلقون بشكل خاص بشأن ولاية ميشيغن، التي تضم عدداً كبيراً من السكان العرب والمسلمين الذين باتوا يقولون الآن إنهم لن يصوّتوا له في نوفمبر بسبب الغزو الإسرائيلي لغزة. ويخشى فريق بايدن أن تكون هذه الانشقاقات مهمة جداً، لأن ميشيغن ولاية ذات أهمية بالغة في الانتخابات.
باختصار، لقد تسببت الحرب الإسرائيلية على غزة في زيادة كبيرة في الانتقادات العامة الأميركية لإسرائيل وفي التعاطف مع الفلسطينيين، ولا سيما بين طلبة الجامعات، ولكن أيضاً بين الأميركيين الآخرين. وهذا بدوره أدى إلى انتقاد الرئيس بايدن بسبب دعمه إسرائيل، الأمر الذي قد يكون له بعض التأثير على الانتخابات الرئاسية في نوفمبر.
*دبلوماسي أميركي متخصص في شؤون الشرق الأسط