يعتبر «تسليح الاقتصاد Weaponizing The Economy» أحد أبز عناصر الأزمة الأوكرانية وأكثرها فجاجة، ويعد تطوراً غير مسبوق من حيث توظيف أدوات الضغط السياسي من قَبل الأقطاب المتزاحمة جيواستراتيجياً. وجملة ما فرض من عقوبات في الاتجاهين، أفرز حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي في العشرات من الدول حول العالم، ويمكن تعريفها تجاوزاً «متلازمة سيريلانكا Sri Lankan Syndrome»، وكذلك هو شأنها في التسريع بإقحام الاقتصاد العالمي حقبة جديدة من الكساد المتسارع. وتزامن كل ما سبق مع تصاعد المخاوف من عودة كوفيد-19 للانتشار من جديد. إلا أن تزامن ذلك مع شكل آخر من أشكال الإمعان في الدبلوماسية الغليظة (الخشنة) أو «حد الهاوية Brinkmanship Policies» متمثلاً بزيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بلوسي إلى تايوان.
الأبعاد السياسية في الدبلوماسية بكل أشكالها في غالبها محسوس، وقد كانت كذلك في زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان، ورغم ما مثلته تلك الزيارة من تصعيد بين واشنطن وبكين، إلا أن عواقبها كانت مدروسة من الجانبين. فقد أظهرت واشنطن التزاماً بأمن حلفائها في وقت ساور الشك أكثرهم. أما واشنطن، فقد أبرزت نوعاً آخر من الأرض المحروقة إن قررت بكين غزو تايوان.
تطور آليات التزاحم الجيواقتصادي Geo-Economics وصولاً إلى إفراغ الجغرافيا من قيمتها الاقتصادية، قد يغير أو غيّر من تقييم بكين للموقف السياسي بمماثلة الخطوة الأميركية. فأمر تعافي الصين اقتصادياً، هو أولوية استراتيجية بالنسبة إلى بكين، مضافاً إليه أمر المخاطر الداخلية في حال عاود وباء كوفيد-19 إلى الانتشار من جديد.
تايوان ليست أوكرانيا، والصين لن تقدم على مثل قرار الغزو لتجد نفسها معزولة اقتصادياً في أهم اقتصادين (الولايات المتحدة وأوروبا)، أو أن تعطي المبرر للولايات المتحدة للتغاضي عن حيازة أو تطوير بعض حلفائها لقدرات ردع نووي، وقد سبق أن أذنت واشنطن لأستراليا وكوريا الجنوبية بتشغيل غواصات تعمل بالدفع النووي.
بكين تدرك أن القبول بمثل ذلك التطور قد يفرض نوعاً جديد من التوازن الجيوسياسي، إلا أن بكين قد احتسبت لأمر أمن عمقها الاستراتيجي قبل حين عبر تمددها الجغرافي في بحر الصين الجنوبي. في حين أن واشنطن قد وضعت على الطاولة أمر إفراغ تايوان من قيمتها الاقتصادية والمتمثل في قيمته رأس مالها الفكري، وتدرك أن لا قيمة استراتيجية لتلك الجزيرة إن أُفرغت منه.
إدارة التزاحم بين الأقطاب الثلاثة بعد فشل كل نماذج الخيارات العسكرية، سيدفع بتعاظم دور آليات الاقتصاد السياسي إلى البروز بأشكال غير مسبوقة، وكذلك الضغوط على الأطراف المؤثرة في خطوط الإنتاج والإمداد (المملكة العربية السعودية والإمارات) ليس فقط نفطياً، بل سيكون للجغرافيا كلمة الفصل في ذلك. فقد أظهرت الأزمة الأوكرانية حجم الانكشاف السياسي لمثل تلك الآليات، وتأثيراتها المباشرة على الأمن الاجتماعي «متلازمة سيريلانكا Sri Lankan Syndrome». والسؤال الآن: ما هي الأبعاد المحتملة جراء التصعيد السياسي في حال استمرت الأقطاب في توظيف تلك الآليات في إدارة أمر التزاحم فيما بينها، ذلك أولاً، أما ثانياً: ما مسؤولية الجغرافيا السياسية الواقعة بينها تجاه شعوبها وكذلك مسؤوليتها تجاه الاستقرار الدولي؟
كاتب بحريني