العقل هو الحقل الذي تمر فيه جداول الحكمة، إذا ما سخت غيمة النفس، وملكت النوايا، وأجهضت الرزايا، وصارت الحياة منازل وعي لكل ما يعترض الإنسان من عقبات ونكبات وخضات، ورضات، واليوم إذ تئن الكرة الأرضية، بيتنا ومكاننا الذي ترعى فيه غزلان محبتنا، ومن فرط الغضب البشرية، وعبثية عباد القوة الجهنمية، يشعر الإنسان باهتزاز الأرض من تحت قدميه، يشعر باكتئاب الطير والشجر، يشعر الإنسان بأن الحضارة التي أنارت طرقات الإنسان وهو ذاهب إلى مجده، هذه الحضارة لم تتوانَ عن التخلي عن كرسي عرشها، والنفور من الفعل العقل البشري وتماديه في ضرب جذور الحضارة، وكبح جماح التألق، وإطفاء مصابيح التطور، واختزال العلاقة بين الأنا والآخر في فنجان قهوة مرة باردة يقدمها إنسان مريض، إنسان تخلى عن عفويته وركب سفينة البغضاء، والحقد والكراهية، وأبحر متعالياً، متهادياً، تتلاطم به أمواج البطش والسلب والنهب، فلا يجد سوى ذلك الطوفان الذي أغرق فرعون، واستباحه، وأفناه، وغيَّب علياءه، ودمر كبرياءه، حتى رفع اليدين مستسلماً للقدر، قائلاً بأن الله حق.
اليوم وبعد أن غرقت الأمواج بحماستها، وبعد أن طُمي بحر العلاقات الدولية بسيول من دفقات المشاعر الحمقى، والنفوس الأمارة، أصبح العالم بحاجة ماسة لطوارئ دولية، عقول تحتكم إلى الضمير الحي، ونفوس متحررة من الأنانية، وأرواح كأنها أجنحة الطير، اليوم البشرية وهي تمر بأقسى تاريخها، تحتاج إلى ترويض الوحوش، تحتاج إلى استئناس الكواسر وإنْ لزم قصقصة أجنحتها، ومنعها من الطيران حتى لا تقنص ما يسكن في أعالي الجبال. اليوم الإنسانية وهي تحضر لعصر جديد، عصر الذكاء الاصطناعي، تحتاج إلى عقل مرادف يوقف جريان الأودية، ويمنع وصول الطمي إلى بيوت الآمنين.
اليوم ونحن نعيش فرحة انتصار العقل في مجالات مختلفة، مطلوب منا أن نحاكم العقل إذا زل وأخل، وتمادى في جبروته، وبالغ في عنجهيته، وتطاول على الفطرة، بشكل يخدش كينونتها، اليوم نحن مسؤولون عن هذا العقل، كما أنه مسؤول عن تحقيق أمننا، وطمأنينتنا، مسؤول عن حضارتنا، وكل ما حدث خلال القرون الماضية من تطور، على العقل أن يتحمل مسؤوليته في عدم الإفراط في الخروج عن نطاق عفويتنا، وعدم المبالغة في رسم خرائط وهمية لحركته وانتقاله من دائرة ثقافية إلى أخرى، هذا العقل الذي أسعدنا، هو الذي يتعسنا إذا ما أفلت الزمام منه، وتجاوز حدود الطبيعة البشرية، وتسلق جدران المحرمات، واغتال الحقائق، وفكر فيما هو خارج نطاق حقيقته، كعقل عليه أن يحترم المواثيق، والقيم، والأخلاق، والمبادئ، عليه أن يوفق ما بين متطلبات الحضارة ومحرماتها الأخلاقية، عليه أن يكون رهن إرادة الإنسان، لا أن يكون مسماراً في خاصرته.