كلما انتهيت من قراءة جيدة، أسقط في حالة من البؤس وأنا أبحث عن عمل آخر يجعلني أكتشف جديداً عن ذاتي، يجعلني أطرح أسئلة جديدة لم أعتقد أني بحاجة لأطرحها على نفسي وعن العالم الذي أعيش فيه، وهذا ما يجعل رحلة البحث مضنية، فلا أصعب من معرفة الإنسان لدواخله، التي يعتقد أنه يدركها، بينما هناك مئات الزوايا لذات النفس لم تكتشف بعد!
أقوى الأعمال الأدبية تلك التي تقبض عليك لترمي بك في أعماق ذاتك، كتلك الروايات التي تتوهم في البداية أنها تخص آخرين، فيما هي تعنيك أنت بالذات دون غيرك، إنها الأعمال التي تصفعك وأنت تضحك من مواقف أبطالها، وتخبرك أنك لست في منأى عما يجري فيها، وأن حادثة وقوع العمل بين يديك ليس مصادفة، وإنما هي رسالة لك لتستفز قناعاتك السابقة لتعيد قراءة ذاتك.
القارئ الذي يقارب نفسه ومجتمعه في كل ما يقرؤه، هو ذلك الفطن الذي يريد أن يستخلص الحكمة والمغزى من وجوده عبر قراءة أعمال الآخرين والتأمل في حياتهم، وإدراك أن الاختلافات الإنسانية بين البشر يجب أن تقربنا بشكل كبير إلى بعضنا، وتوضح لنا كم نحن متشابهون رغم كل القشور التي ندّعيها ونتباها بها أمام بعضنا بعضاً.
تتشابه تلك الأعمال القوية التي أقصدها في أنها تؤكد على العبث والوهم، الذي يركض وراءه الناس في سباق نرجسي للحصول على التمييز، لكي يصبحوا أكثر ثراءً وأشد حظوة وأعلى مكانة وأقوى نفوذاً.. وغيرها من صيغ المبالغة المحمومة التي تستأثر على رغباتهم، وهم في هذا الطريق الدامي يفقدون الكثير من إنسانيتهم.
نعتقد أننا وفي الطرق التي نحيا بها الحياة أننا متميزون وظروفنا متباينة، ونصر أثناء الرحلة على اختلافنا وتفردنا، فيما الحقيقة أن آخرين مهما بلغت درجة تباينهم الظاهر عنّا، لهم كذلك طرقهم التي يسيرون فيها معتقدين كذلك أنهم متفردون، بينما الحقيقة أن طرقنا مهما بدت متشابكة إنما هي متشابهة حد التطابق.
في تلك الأعمال التي أقصدها، سنجد أنفسنا وسط حياة وكأنها كُتبت لنا، وذلك عندما تمنحنا لحظات من الإدراك العميق بأننا لسنا استثناء بل جزءاً من نسيج إنساني واحد، فنكتشف أنفسنا في قصص الآخرين، في ثنايا انكساراتهم التاريخية وأحزانهم الآنية، سندرك لأي درجة تتشابه الحكايا وتتشابك المصائر وتتطابق النهايات، حيث الطرق المتفردة والتميزات والأنساب الخالصة، إنما هي أوهام يصنعها الناس بإصرار.. وبكل جهل.