تحليل الخطاب السياسي للرؤساء
يحتل تحليل الخطاب السياسي لرؤساء الجمهوريات مكانة مهمة في البحث السياسي المعاصر في مختلف بلاد العالم. وترد هذه الأهمية إلى مركزية الطرح السياسي الذي يقدمه رئيس الجمهورية في أي بلد من البلاد، وأياً كان نظامها السياسي شمولياً أو سلطوياً أو ديموقراطيا في الكشف عن رؤيته سواء للسياسة الدولية أو للسياسة الداخلية.
فيما يتعلق بالسياسة الدولية تبدو الأهمية أن خطابات الرئيس عادة ما تتعلق بالحرب والسلام من ناحية، وبالتعاون والصراع من ناحية أخرى في مجال علاقات بلده ببقية بلاد العالم. وعادة ما يشغل الرئيس- أياً كان النظام السياسي الذي يعمل في ظله- المكانة العليا في مجال التعبير عن سياسات بلاده، وفي ضوء التحليل الدقيق لخطابات الرؤساء -أياً كانوا- عادة ما تتخذ النخبة السياسية الحاكمة كرد فعل لهذه الخطابات قرارات قد ترقى في بعض الأحيان إلى شن الحرب كما حدث عام 1967، حين توترت العلاقات بين إسرائيل ومصر وتصاعدت حدة التصريحات السياسية، وانتهى الموقف في 5 يونيو بشن إسرائيل هجوماً كاسحاً على مصر، وتمت الهزيمة. والنقطة الأساسية التي نريد إثارتها هنا هي المنهجية التي على أساسها يقوم الباحثون السياسيون سواء في مراكز الأبحاث العلمية أو في مراكز صنع القرار بتحليل الخطابات السياسية للرؤساء. ونستطيع أن نؤكد أن هذه المنهجية تمثلت في عقود طويلة في أسلوب تحليل المضمون، الذي ?عرفه «?برلسون» ?أحد ?رواد ?هذا ?المنهج «?بأنه ?تحليل ?المحتوى ?الظاهر ?للاتصال»?. والسؤال الآن ما هي الفئات الأساسية التي يقوم عليها أسلوب تحليل المضمون؟ هما فئتان رئيستان، وتحت كل فئة فئات فرعية متعددة. الفئة الأولى هي ماذا قيل؟ والفئة الثانية كيف قيل؟
في الفئة الأولى يعمد الباحث إلى التحليل الدقيق للموضوعات التي وردت في الخطاب الرئاسي، وقد يتجه إلى عدّ بعض الكلمات المحورية في الخطاب مثل الديموقراطية، أو حقوق الإنسان، أو الصراع، أو التعاون. أما «كيف قيل»، فمعناه رصد اتجاهات صاحب الخطاب من كل فكرة محورية وردت في خطابه، وهل كانت سلبية أو إيجابية.
وليس هنا مجال للحديث في الأساليب الفنية في الموضوع. كل ما أردنا أن نشير إليه أنه حدث انقلاب منهجي في تحليل الخطاب السياسي بعد بروز منهج جديد يطلق عليه «منهج تحليل الخطاب». وهذا المنهج أثبت أنه أكثر فعالية في الوصول إلى المضمون الحقيقي للخطاب السياسي بدلاً من الوقوف عند سطح الخطاب، بدون القدرة على الغوص في أعماقه.
ولكى نعطي فكرة موجزة عن هذا المنهج - وفيه مدارس علمية متعددة- نشير إلى أنه من بين القواعد الكبرى له أن ما سكت عنه الخطاب قد يكون أهم مما ورد فيه! ومن هنا برزت فكرة «المسكوت عنه في الخطاب»؛ لأنه يشير إلى الموضوعات التي تحاشى أن يذكرها صاحب الخطاب الرئاسي، مما يشي بأنه أراد ألا يمسها؛ لأنها قد تثير الحرج بالنسبة إليه، إذا ما كان نظاماً شمولياً أو سلطوياً يخرق حقوق الإنسان، ومن هنا تجاهل الموضوع، ظناً من صاحب الخطاب أنه يعفيه من النقد العلني.
والقاعدة الثانية الكبرى من قواعد تحليل الخطاب هي رصد «ما لم يفكر فيه الخطاب»! بعبارة أخرى، أن دراسة تضاريس الخطاب الرئاسي ومفرداته قد تكشف عن أنه تجاهل تماماً موضوعاً رئيساً يشغل الرأي العام في بلده أو في العالم. في ضوء ذلك، يمكن القول إننا نحتاج - في مجال تحليل خطاب الرؤساء- إلى أن نفرق تفرقة واضحة بين الحداثة، التي هي مشروع حضاري و بين التحديث، الذي هو عملية اجتماعية، والفرق جوهري بينهما في الواقع.
الحداثة - بعبارة موجزة- هي المشروع الحضاري الذي قامت على أساسه المجتمعات الأوروبية في تغيير مجتمعاتها بصورة كيفية، وهي تقوم على عدة أسس هي الفردية بمعنى استخلاص الفرد من جموع الناس التي كانت تكون المجتمعات الإقطاعية، وإعطاؤه حقوقه السياسية والاقتصادية والثقافية. ومن هنا، يمكن القول إن الحداثة السياسية كانت تعني الديموقراطية وحقوق الإنسان، والحداثة الاقتصادية كان معناها التصنيع بكل سماته الإيجابية، والحداثة الفكرية، وهي أهمها جميعاً معناها أن العقل وليس النص الديني هي محك الحكم على الأشياء. وهي الحداثة التي عجزنا عن تحقيقها في العالم العربي والإسلامي، حيث مازال النص الديني هو محك الحكم على الأشياء؛ ولذلك لا غرابة في صعود الحركات التكفيرية والإرهابية التي أدت إلى هدم الدول العربية!