الهوية والعولمة: تكييف جديد
يحتل مفهوم الهوية اليوم كما تحتل المشاكل السياسية والاجتماعية والجيوستراتيجية المرتبطة به، موقعاً مركزياً في حياة العالم المعاصر ونقاشاته. ويشكل مفهوم الهوية منطلقاً لتفكير جديد يختلف عن ذاك الذي تميزت به الحقب السابقة من تاريخنا الحديث، والذي احتل موقع القلب فيه مفهوم التقدم التاريخي أو الصراع الاجتماعي والطبقي أو تكوين الدولة الأمة والقوميات الصاعدة. وتظهر الهوية كمفهوم جديد إطاراً أكثر نجاعة في فهم إشكاليات مجتمعاتنا المعاصرة وعالمنا المتحول والمتغير في الوقت نفسه. فنحن نعيد بناء نظرياتنا من حول مفهوم الهوية، ونعتقد أننا نكشف عن أبعاد جديدة في الوجود الاجتماعي وفي الواقع التاريخي لم نكن نعرفها من قبل، أو لم تكن تظهر لنا عبر المفاهيم النظرية الكلاسيكية. هذا ما يفسر الانتشار، بل النجاح الكبير الذي لقيته نظرية صدام الحضارات مثلا كمحاولة لتحليل مصدر النزاعات الدولية، مع الربط بين الحضارة والثقافة والدين معاً. ولا يختلف عن ذلك نظيرها: حوار الحضارات والأديان الذي أصبح أو يكاد يصبح تقليداً سياسياً يلجأ إليه القادة لتجاوز سوء التفاهم بين الدول. وتعني الحضارات هويات تاريخية كبرى متعددة ومتنافسة. وهذا ما يفسر أيضاً المكانة التي تحتلها الأفكار الإسلامية بوصفها تعبيراً عن مطالب هوية مقموعة، من قبل الغرب وحضارته المسيطرة من جهة، ومن قبل الحكومات والنظم السياسية التي تنحو في نظر قطاعات واسعة من المجتمع منحى دنيوياً لا يأخذ في نظرهم بالاعتبار الهوية الإسلامية. وهو الذي يفسر كذلك صعود مسائل الطائفية والإثنية والنزاعات العصبوية التي تقود إلى انقسام الدول وأحياناً إلى تفجير حروب التطهير العرقي. ولا يوفر هذا علوم الإنثربولوجيا والثقافة التي تكاد تتركز بشكل واضح اليوم حول قضايا الهوية الإثنية والهويات الاجتماعية، وتجد نموذجها في نظريات الجنوسة التي تبحث في تكون الأنواع الاجتماعية، أعني هوية المرأة وهوية الرجل والهويات الاجتماعية الخاصة الأخرى الشاذة أو المختلفة وغير المقياسية. وهو أيضاً مفهوم يسيطر اليوم على مسائل التفكير الفلسفي ويساهم في تجديدها من خلال البحث في علاقات الأنا بالآخر، والأنا كآخر، والعلاقات عبر الثقافية والتثاقفية والتعددية الثقافية والتفاعل بين الجماعات أو آليات الإقصاء والتهميش والسيطرة المتبادلة.
من أين يأتي هذا الاهتمام الجديد أو المتجدد بالمفهوم، سواء أكان هوساً بالهويات الخاصة والتعددية، أو احتفاءً بها، وإعادة صوغ مفهومها كأداة نظرية لتحليل وفهم قضايا النزاعات الدولية والاجتماعية والفكرية؟ ماذا تعني الهوية، وما علاقة الهوية أو صعود نظريات الهوية وإشكالاتها ومشاكلها العملية أيضاً بتطور مسيرة العولمة؟ وكيف تفسر العولمة التي تعني تقلص المسافة وتجاوز الزمن أو التغلب عليه، والعيش في ما يشبه القرية الكونية الصغيرة، التي تتجاور فيها الشعوب والجماعات وتتداخل حدود بعضها مع البعض الآخر، هي نفسها التي تقود إلى تفجر أزمات الهوية وتزايد دافع الأفراد والجماعات إلى التمسك بهوياتها الخاصة، بل إلى النكوص في العديد من الأحيان نحو تمثلات قديمة وبائدة للهوية؟
يحتاج الجواب على هذه الأسئلة إلى التدقيق في مفهوم الهوية ومفهوم العولمة معاً، وإعادة رؤيتهما أيضاً في سياق التحولات التاريخية، الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتقنية المستمرة.
عملت العولمة على تسعير أزمة الهوية لأنها بقدر ما هددت استقرارها زادت التعلق بها والحلم بجماعة حميمة، من هنا الصحوة الدينية والارتداد إلى ثقافية تقليدية، أو إعادة إحياء الذاكرة التاريخية والبحث الدائب عن الأصول والجذور والانتماءات الأولى والأولية.
وبالنسبة للعرب بشكل خاص أعتقد أن الإجابة على تحدي العولمة من وجهة نظر مسألة الهوية الوطنية، تستدعي التفكير وإعادة النظر في علاقتين: علاقة الهوية بالحداثة، وعلاقة القومية بالوطنية. الأولى ضرورية للخروج من النكوص الأصولي للهوية، والقطع مع العالم في الوقت الذي يصبح فيه وزن الأمة مرتبطاً بمبادرتها على الساحة العالمية وحجم مشاركتها في الشؤون الدولية، والثانية لأنها أساسية لإعادة تنظيم شؤون المنطقة العربية على أسس مبدئية وثابتة تجنب الانخراط في الحروب الإقليمية والدخول في مسار تحييد متبادل للقوى العربية يقضي على أي أمل للعرب بالتفاعل مع الحقبة العولمية، وما بالك بالرد على تحدياتها.
الإخفاق في تحقيق ذلك، أي تجديد معنى الهوية والارتقاء بمفهومها والوعي بالذات إلى مستوى المشاركة العالمية والتعددية والنسبية والقبول بعالم متعدد الثقافات والهويات قائم على توازن المصالح لا على سيطرة هوية واحدة على الهويات الأخرى، يقود بالضرورة نحو مزيد من الإنغلاق على النفس والتوتر والنزاع والاقتتال. لذلك حيث ما وجد تقوقع على الذات وحركة عودة خائفة إلى الأصول وتراجع عن الحداثة وقيمها الكونية، فالسبب هو إخفاق النخب الاجتماعية في التكيف مع متطلبات العولمة وإعادة تأويل الهوية وبنائها في شروط انفتاح الفضاء العالمي وتحلل الوعي القومي التقليدي تحت تأثير تدفق المادة الإعلامية والمعلوماتية والتبادل والتواصل المتسارعين بين البشر عبر الوسائل الإعلامية وفي الحياة المادية.
كل إنسان حامل لهويات مختلفة ومتعددة، وهو يتنقل بينها. والمشكلة ليست في تعددها، بالعكس هذا التعدد هو الذي يقدم للفرد فرص التوازن والتقدم والتغير والتحول، أي المرونة في الحركة والاتساع في الأفق. المشكلة هي في إيجاد التوازن في ما بينها، حسب الظروف ومتطلبات المرحلة. وبعكس ما يشاع، لم تعد الهوية الوطنية زائدة عن اللزوم في العولمة، وبالمثل لا تستدعي العولمة إلغاء الهوية وإضعافها، هناك حاجة في العولمة لهوية وطنية قوية، لدولة وجماعة سياسية تؤمن التضامن والتفاعل مع الخارج الضاغط والحيوي. والجماعات الثقافية التي خسرت معركة الهوية السياسية والدولة الأمة ستجد نفسها في وضع صعب جداً في عصر العولمة، أي في وضع الانحلال والتفكك والاقتتال الذاتي كما نشهد أمثلة عديدة على ذلك في أفريقيا والعالم العربي. إن المطلوب هو تكييف الهوية الوطنية مع ظروف العولمة، وهو مطلب لا يتحقق إلا بإعادة تأويل الهوية السياسية. وهنا ينبغي التفكير في الهوية الوطنية من وجهة نظر التعددية الثقافية والتنوع والتحول والمرونة والديناميكية بدل التأويل الماهوي والأصولي التقليدي الذي يجسد الهوية في لغة وثقافة وإثنية وخصائص ثابتة ونوعية.