"الصوفية" اليهودية
تردد أن وزير الخارجية الإسرائيلي السابق سيلفان شالوم سيقيل السفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة نظراً لإخفاق مساعده في التقاط صورة تذكارية كانت ستجمع بينه هو وزوجته "جودى شالوم" ونجمة الغناء الراقص الأميركية مادونا أثناء زيارتها لإسرائيل. وأكدت وسائل الإعلام الأميركية والإسرائيلية أن زوجة الوزير هي السبب الحقيقي وراء هذه الضجة الكبيرة. وقد أدى هذا إلى اندلاع الأزمة/ الفضيحة. ويبدو أن مادونا أصبحت جزءاً مركزياً في الوجدان الإسرائيلي، فقد أعلن موقع "هآرتس" الإلكتروني أنها ستصل إلى إسرائيل لحضور مؤتمر عن "القبالاه"، وأنها سيصحبها في رحلتها بعض المشاهير مثل الممثلة "ديمي مور" ومصممة الأزياء "دونا كاران" ومعها "مارلاما بلس" (زوجة دونالد ترمب السابقة، واللذين انتهى زواجهما بفضيحة كبرى). وقد زارت مادونا إسرائيل مؤخراً (موقع هآرتس الإلكتروني 16 سبتمبر 2007) حيث حضرت مؤتمراً عن "التصوف اليهودي". وقد وصفت صحيفة "هآرتس" رداء مادونا بالتفصيل (جاكت أسود -أكمامه طويلة حتى الوسط- حزام كبير- قبعة حوافها سُودٌ وحُمرٌ) أما شعرها فكان على هيئة ذيل حصان. وقد وصلت مادونا وزوجها "جاي ريتش" على طائرته الخاصة، كما وصل عدد كبير من النجوم السينمائيين وعارضي الأزياء من أتباع الصوفية اليهودية التي يطلق عليها "القبالاه". ويلاحظ أن الحديث ليس عن أنهم من أتباع العقيدة اليهودية، وإنما من أتباع التصوف اليهودي المعروف باسم "القبالاه". ولذا فإن مادونا لن تزور الأماكن المقدسة اليهودية، وإنما الأماكن المقدسة للمؤمنين بـ"القبالاه". وهنا يحق لنا أن نسأل، ما علاقة مادونا باليهودية؟ وهل إيمانها بـ"القبالاه" إضافة لليهودية أم حذف منها؟
ولكن حتى نفهم ما يحدث وأبعاد هذه القضية، يجب أن نفسر بعض المصطلحات التي وردت في الأخبار عن تهوُّد مادونا! خاصة أنها في أحد عروضها الغنائية في كاليفورنيا، ظهرت مرتدية "تي. شيرت" عليه شعار "القبالاه هي الأفضل"، بل إنها صرحت بكل وضوح أنها أصبحت من أتباع "القبالاه" اليهودية، وباتت ترتدي أسْوِرة حُمراً حول معصمها كما يفعل معتنقو "القبالاه" (ولنلاحظ أنها لم تقل إنها اعتنقت اليهودية!). فما هي "القبالاه"؟
و"القبالاه" هي مجموعة التفسيرات والتأويلات الباطنية والصوفية عند اليهود، وهي تتسم بطابع حلولي متطرف بحيث يمتزج الإله تماماً بمخلوقاته إلى أن يختفي تماماً. وكان "القباليون" يؤمنون بأن المعرفة، كل المعرفة، توجد في أسفار موسى الخمسة، ويذهبون إلى أنهم يعرفون أسرار الكون والمعنى الباطني للتوراة باعتبارها مخطَّط الإله للخلق كله، وكل كلمة فيها تمثل رمزاً، وكل علامة أو نقطة فيها تحوي سراً داخلياً، ومن ثم تصبح النظرة الباطنية الوسيلة الوحيدة لفهم أسرارها، خاصة أنهم يذهبون إلى أن التوراة كتبت قبل الخلق بنار سوداء على نار بيضاء، وأن النص الحقيقي هو المكتوب بالنار البيضاء، وهو ما يعني أن التوراة الحقيقية مختفية على الصفحات البيضاء، لا تدركها عيون البشر العاديين، ولا يدركها سوى العارفين بـ"القبالاه". ويقول "القباليون" إن الأبجدية العبرية لها قداسة خاصة، ولها دور في عملية الخلق، وتنطوي على قوى غريبة قوية ومعان خفية، وبالذات الأحرف الأربعة التي تكوِّن اسم يهود (تتراجرماتون)، فلكل حرف أو نقطة أو شرطة قيمة عددية. وقد أصبحت "القبالاه" في نهاية الأمر ضرباً من الصوفية الحلولية ترمي إلى محاولة معرفة الإله بهدف التأثير في الذات العلية حتى تنفذ رغبات العارف بـ"القبالاه"، وبالتالي يصبح بوسعه السيطرة على العالم والتحكم فيه. ولذا، فإن "القبالاه" تتبدى دائماً في شكل ما يسمى بـ"القبالاه العملية"، وهي أقرب إلى السحر الذي يستخدم اسم الإله والمعادل الرقمي للحروف والأرقام الأولية والاختصارات للسيطرة على العالم. ويمكن القول إن "القبالاه" وتراثها وطريقتها في تفسير النصوص اليهودية المقدَّسة، وإيمانها بالحل السحري وبالخلاص القومي، أخذت تسيطر بالتدريج على الوجدان الديني اليهودي ابتداءً من القرن الرابع عشر، وهيمنت عليه تماماً مع نهاية القرن الثامن عشر.
والصهيونية هي وريثة التراث "القبالي" في بنيتها، فهي ترى العالم من خلال رؤية حلولية تبشر بالخلاص القومي والترابط العضوي بين عناصر الثالوث الحلولي (الإله والشعب "الشعب اليهودي" والأرض "أرض الميعاد، أي فلسطين"). ولكن مع القضاء على السلطة المركزية اليهودية ومع سقوط الهيكل تشتت اليهود، فعبرت الرؤية الحلولية عن نفسها بشكل فردي من خلال "القبالاه" (التأملية والعملية)، ولكنها عادت إلى سابق عهدها في العصر الحديث مع ظهور الصهيونية، حيث يصبح الخلاص مرة أخرى خلاصاً قومياً، فالصهيونية تؤكد ارتباط الشعب بالأرض نتيجة الحلول الإلهي أو سريان روحه المقدَّسة في كل من الشعب والأرض. و"القبالاة" العملية الحديثة (أي الصهيونية) هي الاستيلاء على الأرض ونقل اليهود إلى فلسطين (ونقل العرب منها) وتصبح الدولة هي الهيكل الذي يتعبد فيه يهود العالم ويقدمون له القرابين.
هذا أحد أهم جوانب "القبالاه"، ولكن ثمة جانباً آخر له علاقة وطيدة بموضوع مادونا. إذ يرى "القباليون" أن الإله قد فاض التجليات العشر النورانية. وكان يُنظَر أحياناً إلى التجلِّيات باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من جوهر الإله، وأن مراحل التجلي تمت داخل الذات الإلهية.
ويتم التعبير عن العلاقة الأساسية بين التجلِّيات المختلفة من خلال صورة مجازية أو مقولة إدراكية جنسية واضحة. فالعلاقة بين الأب والأم (التجليان النورانيان الثاني والثالث) علاقة جنسية واضحة. ويجب ألا ننسى أن الأب والأم هما النموذجان الأمثلان المتحققان. وقد حملت الأم من الأب، وأنجبت الابن والابنة، وكانا في الأصل كائناً واحداً أحادياً مخنثاً (ذكر/أنثى) يعبِّر عن الواحدية الكونية، ويظهر هذا الابن -التجلي السادس- وهو رمز ذكري واضح، فهو يفيض بالرحمة الإلهية التي تنزل على التجلي العاشر الذي هو الملكة أو الشخيناه، أي التجلي الأنثوي للإله، وهي أيضاً "كنيست" أو جماعة يسرائيل التي يُشار إليها بتعبير "بنت صهيون" (بات تسيون). ومن خلال التفاعل بين عناصر الذكورة وعناصر الأنوثة، تفيض الرحمة على الشخيناه، وتتحد الذات الإلهية، وبذلك تصبح وحدة الإله والكون هي نفسها الوحدة الكونية. وتُستخدَم صورة الزواج المجازية للحديث عن علاقة الإله بالشعب (ونشيد الأنشاد هو نشيد زفاف الشعب إلى الإله!). وحالة "الزواج" الكوني هذه كانت مصدراً للتناسق، ولكن حدث خلل ما أدى إلى فراقهما. حينئذ يبدأ الملك في البحث عن الملكة أو الشخيناه. وتصف القبَّالاه العلاقة بينهما. وقد خلق الإله الشعب اليهودي ليُصلح الخلل ويُقرِّب الابن والابنة. ولكن، بسبب ذنوب جماعة "يسرائيل"، هدم مخدع الشخيناه، أي الهيكل، فنُفيت الشخيناه معهم خارج فلسطين.
وبذلك تصبح الصورة المجازية الجنسية المقولة الإدراكية التفسيرية الكبرى في القبالاه، فهي تبيِّن سر وحدة الكون، ومصدر الوحدة بين الإله ومخلوقاته، ومكانة الشعب المختار المتميِّزة، وهي أيضاً الطريقة التي تتوحد بها الذات الإلهية وتتحقق، إذ إن توحُّد التجلِّيات هو توحُّد الإله واكتمال وجوده.
وقبل أن تهيمن القبالاه على الوجدان والخطاب الديني اليهودي، وصفها الحاخامات الأرثوذكس بأنها تخلت عن التوحيد اليهودي، وأحلت محل الإله الواحد عشر آلهة (التجليات النورانية العشر). وهم محقون تماماً في هذا، فالخلق عن طريق الفيض يفترض عشرةتجليات يحمل كل منها قداسة إلهية، كما أن كلاًّ منها منفصل عن الآخر، فهي تكاد تكون عدة آلِهَاتٍ أو إلهاً واحداً قابلاً للانقسام إلى أجزاء. كما قال حاخام آخر إن "القبالاه" جنست الإله وألهت الجنس، أي أضفت مركزية كونية على الجنس (وهذا يوضح أثر القبالاه على فرويد). هذا هو الإطار الإدراكي والمعرفي الذي يتحرك داخله أتباع "القبالاه".
والله أعلم.