عقد مجلس الجامعة العربية اجتماعاً طارئاً يوم الثلاثاء الماضي، بدعوة من مصر، للنظر في مسألة التدخل العسكري التركي في ليبيا، والتي لم يترك المسؤولون الأتراك مجالا للشك في أنهم جادون بشأنها، خاصة أن الاجتماع عُقِد قبل يومين فحسب من انعقاد البرلمان التركي للموافقة على طلب أردوغان إرسال قوات تركية لليبيا، بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات تزيد الوضع في ليبيا تعقيداً وخطورة على أمن جوارها والأمن العربي ككل. وقد اتخذ المجلس قراراً لم يقدم آليات محددة للتعامل مع هذا الخطر نظراً لعموميته الشديدة، فهو بعد أن يؤكد على «الالتزام بوحدة وسيادة ليبيا وسلامة أراضيها»، يرفض التدخل الخارجي «أياً كان نوعه»، وبالتالي فهو ليس موجهاً ضد التدخل التركي بالذات. ويستمر هذا المعنى في كل فقرات القرار الستة. فالمجلس يعرب عن قلقه الشديد «من التصعيد العسكري» في الفقرة الثالثة، وهكذا في باقي الفقرات. ومشكلة هذه الصياغات كونها شديدة العمومية، فقد انعقد المجلس للنظر في خطر محدق بأمن ليبيا ودول جوارها وبالأمن العربي ككل، وهو التدخل التركي المحتمل، فإذا به لا يشير إلى تركيا ولو مرة واحدة بالاسم، مع أن تصريحات رئيسها ومسؤوليها لم تترك مجالا للشك في أن التدخل قادم، بل أمر واقع منذ بدأ الصراع الليبي. لكن المطروح على بساط البحث حالياً هو التدخل العسكري التركي المباشر، بينما ينطبق القرار على أي عمل في الساحة الليبية ولو كان في مجال مكافحة الإرهاب. وبطبيعة الحال لم يُشر القرار إلى الفصائل الإرهابية المتحصنة في طرابلس.
وهكذا أتت صياغاته في مسار العمومية، فهو يُؤكد أن التسوية السياسية هي الحل الوحيد لعودة الأمن والاستقرار إلى ليبيا، لكنه لا يشير مطلقاً إلى المتسبب في عرقلتها، أو إلى كيفية تفعيلها. كما يؤكد «خطورة مخالفة نص وروح الاتفاق السياسي الليبي والقرارات الدولية ذات الصلة على نحو يسمح بالتدخلات العسكرية الخارجية»، لكنه لا يحدد مَن الذي يخالف ولا مَن المسؤول عن السماح بالتدخلات العسكرية الخارجية، مع أن الطرف الذي فعل هذا ويفعله معروف للكافة. وهو يشدد على ضرورة منع التدخلات الخارجية التي «تُسهم في تسهيل انتقال الإرهابيين الأجانب إلى ليبيا، وكذلك انتهاك القرارات الدولية المعنية بحظر توريد السلاح إلى ليبيا بما يهدد أمن دول الجوار الليبي والمنطقة»، مع أن هناك طرفاً لم يكتف بتلقي الأسلحة من تركيا وإنما وقّع معها اتفاقاً أمنياً أتاح له طلب تدخلها العسكري المباشر، ناهيك عما أكدته التقارير الميدانية حول أماكن وجود الفصائل الإرهابية التابعة لتركيا في سوريا، حيث تم فتح باب التطوع لمسلحي هذه الفصائل للقتال في ليبيا مقابل أجور مغرية!
وباختصار فقد جاءت صياغة القرار شديدة الدبلوماسية لا تُغني ولا تُسمن من جوع ويستحيل من خلالها القيام بأي تحرك جاد في مواجهة الغزو التركي المحتمل لليبيا. ولذا فإن الأفكار التي طُرِحت على مجلس الجامعة قبل اجتماعه أصبحت غير ذات موضوع، كالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي الذي تضرر عضوان فيه من السياسات التركية، بما دفعه لتوقيع عقوبات على تركيا من الواضح أنها غير كافية لردع العدوانية الأردوغانية، وكعرض الموضوع على مجلس الأمن باعتبار أن قراره رقم 1970 لعام 2011 الذي يمنع توريد السلاح إلى ليبيا لم يُنتهك فحسب وإنما ثمة جيش سيتدخل بأسلحته وعتاده.. فأي انتهاك أشد من هذا للقرارات الدولية؟ أما المطالبة بتفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك التي بادر بها مجلس النواب الليبي الشرعي فباتت في هذا السياق من أفكار الخيال العلمي.
لا شك أن مجيء البيان على هذا النحو يرجع إلى عدم الاتفاق بين الدول الأعضاء على تشخيص مشترك للموقف وهي ظاهرة باتت شائعة في النظام العربي، حيث يتباين إدراك وحداته لمصادر تهديد أمنه القومي، وهي ظاهرة تحد من قدرته على مواجهة هذه التهديدات. وتلك مسألة أحسبها تستحق اهتمام النخبة السياسية والاستراتيجية في العالم العربي.
*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة