في زيارتي الأولى لبرلين بعد سقوط جدارها الشهير، حرصت على زيارة موقع هذا الحاجز الذي رمز مدة نصف قرن للصراع القطبي بين المعسكرين الشرقي والغربي. كثير من الألمان قالوا لي إنهم لم يصدقوا أن الجدار سينهار بسهولة وأن توحيد شطري البلاد سيتم بسلاسة ودون عوائق جوهرية، بل إن غورباتشوف -آخر رئيس للاتحاد السوفييتي- كتب في مذكراته أنه لم يتوقع هذا الحدث ولم يكن يعتقد أنه ممكن في المدى المنظور وأنه لم يسع إلى الوقوف دونه.
ورغم أن تفكك الاتحاد السوفييتي حدث بعد سنتين من سقوط جدار برلين، إلا أن الحرب الباردة انتهت عملياً منذ هذا الحادث إلى حد أن الرئيس الأميركي أوانها، جورج بوش الأب، أعلن انتصار بلاده في ذلك الصراع الأيديولوجي الاستراتيجي.
لازلت أذكر أجواء تلك المرحلة، والحماس الفكري الواسع للعالم الجديد الذي ولَّده انهيار الأنظمة الشيوعية وانتقال شرق أوروبا للديمقراطية التعددية والليبرالية الاقتصادية. ومع أن مقالة فوكوياما حول «نهاية التاريخ»، والتي نشرها في ذلك الوقت، قد اشتهرت على أوسع نطاق، إلا أنها كانت عينة محدودة من نتاج فكري سياسي غزير حول فشل المنظومة الأيديولوجية الماركسية وانتصار العقيدة الليبرالية الرأسمالية من حيث هي التعبير الوحيد الموضوعي والطبيعي عن حركية الحداثة وتطور الإنسانية.
ومع أن فترة التسعينيات عَرفت حادثة احتلال الكويت، والحروب البلقانية في قلب أوروبا.. فإن الفكر الاستراتيجي اتجه في الغالب إلى تثبيت أطروحتين أساسيتين: إعادة بناء النظام الدولي وفق معادلة القوة الجديدة التي حولت الولايات المتحدة إلى قوة فاعلة وحيدة لها أذرعها المؤسسية الصلبة التي تتمحور حول هيئة الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وتوسيع الأطر المرجعية للقانون الدولي على أساس مدونة حقوق الإنسان والقيم الليبرالية المرتبطة والتعبير عن هذه المعايير في النظام السياسي التعددي.
إنها الفترة التي شهدت أجرأ المحاولات لتسوية النزاعات الدولية، وفي مقدمتها الصراع العربي الإسرائيلي، وموجة الانفتاح الديمقراطي العارم في أوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية وأفريقيا جنوب الصحراء، كما شهدت تراجع النفوذ الروسي وتوسع المظلة الأطلسية إلى المجال الحيوي للاتحاد السوفييتي السابق.
يتحدث اليوم غورباتشوف عن الفرصة التي أضاعتها الولايات المتحدة وأوروبا في إدارة الحقبة الانتقالية في روسيا التي دخلت في منعرج إصلاحي متسارع منذ منتصف الثمانينيات، معتبراً أن تنصل موسكو من تركة الهيمنة على شرق أوروبا قد فُهم على أنه مظهر هزيمة وعجز، كما أن محاولات القيادة الروسية الجديدة للاندماج في العائلة الأوروبية وفي النظام الاقتصادي العالمي قوبلت بالرفض والتعنت بحيث وجدت روسيا نفسها مضطرةً لإعادة بناء قوتها العسكرية والاستراتيجية والانكفاء على مجالها الآسيوي واستعادة مواقعها في دائرتها الأمنية الحيوية القريبة.
وهكذا أدت أخطاء الغرب المنتصر في الحرب الباردة إلى تعميق الشرخ الاستراتيجي الدولي الذي تعمق في العقد الأخير نتيجة لعوامل ثلاثة أساسية:
أولها: عدم مراجعة قواعد النظام الدولي لتصحيح الخلل الجوهري في موازين القوة الجديدة، باعتبار أن النظام الذي لا يزال قائماً هو نتيجة موازين الحرب العالمية الثانية ولم يراع المعطيات الناتجة عن بروز القوى الجنوبية الصاعدة وانحسار النموذج القطبي نفسه الذي لم يعد ملائماً لمعادلة العولمة الراهنة وما ولّدته من تشابك وتداخل المصالح بين أطراف العالم الواحد.
ثانيها: عدم مراجعة قواعد المنظومة الاقتصادية والتجارية الدولية التي تشكلت منذ ثلاثينيات القرن الماضي على أساس انتقال مركز «الاقتصاد- العالم» (حسب مقولة المؤرخ فرناند برودل) إلى قلب الصناعات التقنية الجديدة والمؤسسات المالية والنقدية في الولايات المتحدة. لقد كشفت الأزمات المالية المتكررة منذ منتصف التسعينيات عن الحاجة إلى تعديل قواعد وآليات المنظومة الاقتصادية التي أصبحت في انفصام كامل عن طبيعة الثورة التقنية الجديدة القائمة على الذكاء الاصطناعي والشبكية الاتصالية كما هي في انفصام مع السياق الاجتماعي بما يطرح تحديات عصية غير مسبوقة على طبيعة النشاط الاقتصادي نفسه وما يتعلق به من مقتضيات العدالة التوزيعية.
ثالثها: عدم مراجعة قواعد وآليات النظام السياسي لسد الاختلالات المتفاقمة لنمط الديمقراطية التمثيلية الذي ولّدته الدولة الوطنية الليبرالية. ولعل ما عكسته الحركات الاحتجاجية التي انفجرت في كثير من بلدان العالم (وهي في طور التصاعد حالياً) وصعود الحركات الشعبوية في البلدان الديمقراطية العريقة، هو أن الديمقراطية التمثيلية التقليدية لم تعد قادرة على حل معضلة الشرعية والثقة التي هي الميزة الكبرى للديمقراطيات التعددية المستقرة، بما يفضي إلى تحديات جديدة يتعين على الفكر السياسي وضع حلول ناجعة لها.
بعد ثلاثين عاماً على سقوط جدار برلين يمكن القول مع الفيلسوف الفرنسي رجيس دوبريه بأن انهيار هذا السور الكبير الذي كان يفصل بين عالمين متعارضين، أدى إلى تعدد الجدران والأسوار في مختلف مناطق العالم، بحيث تحول العالم الراهن إلى بؤر مغلقة من الهويات المتصادمة، بدل نجاح حلم الإنسانية الموحدة الذي ظهر بعد نهاية الحرب الباردة.
*أكاديمي موريتاني