في تسعينيات القرن الماضي، كان من الصعب إغراء الألمان باليورو. فقد كان حبهم لماركهم الألماني أكثر من فكرة «اتحاد أوروبي متكامل» التي راقتهم نوعاً ما. وهذا لأنهم كانوا يثقون ببنك ألمانيا المركزي الراسخ في توجهه المحافظ. فقد ذكر جاك ديلور، وهو فرنسي ورئيس سابق للمفوضية الأوروبية، أن «ليس كل الألمان يؤمنون بالله، لكنهم جميعاً يؤمنون ببوندسبانك (البنك المركزي الألماني)».
وهذا التصور القديم يلقي بظلاله على كريستين لاجارد، وهي فرنسية أيضاً تستعد لتخلف «ماريو دراغي» في رئاسة البنك المركزي الأوروبي في نوفمبر المقبل. ومشكلتها هي أن الألمان، إلى جانب بعض الحلفاء، يعارضون من حيث الفلسفة المبادئ المحورية للتحفيز النقدي التي دفع بها دراغي والتي قد تمضي فيها لاجارد إلى حدٍ أبعد. والانقسام داخل المركزي الأوروبي قائم منذ فترة طويلة، لكنه تكشّف للعيان الشهر الماضي، حين عارض سبعة من 25 عضواً في مجلس المحافظين تقليص سعر الفائدة واستئناف شراء السندات الذي أعلنه دراغي. ولا مفاجأة في أن يكون ينس ويلدمان، محافظ البنك المركزي الألماني، هو من قاد المقاومة مرة أخرى.
والأكثر إثارة للدهشة هو أن سابينه لويتنشلاجر، الألمانية أيضاً، استقالت بسرعة وبطريقة مثيرة للانتباه من المجلس التنفيذي للمركزي الأوروبي. وهي ثالث ألماني في هذا العقد يترك قيادة البنك، احتجاجاً على سياسته النقدية المتهاونة. ثم تقدم مجموعة من مصرفيي البنوك المركزية الأسبوع الماضي بخطاب مفتوح هاجموا فيه المركزي الأوروبي، وكان ثلاثة من الموقّعين على الخطاب ألماناً. فألمانيا ليست مجرد دولة عضو، إنها أكبر حامل أسهم للبنك المركزي بواقع 18% من رأس ماله أو 26% إذا تم الحساب على أساس أسهم الدول التسع عشرة في منطقة اليورو. ولطمأنة الألمان تمت صياغة البنك المركزي الأوروبي على غرار بوندسبانك. وليس صدفةً أن المؤسستين اللتين تتخذان من فرانكفورت مقراً لهما تفصلهما مسافة تقطعها السيارة في نحو 14 دقيقة فحسب.
وفي السنوات «الإيطالية» الثمانية في ظل رئاسة دراغي، فقد كثيرٌ من الألمان ثقتَهم في المركزي الأوروبي. وتعرض دراغي لانتقادات لاذعة في الصحف الشعبية الألمانية، مفادها أنه اتبع سياسة تخدم جنوب أوروبا وليس ألمانيا أو منطقة اليورو ككل.
وهذه الانتقادات تلقَى صدى لدى الألمان العاديين. فعلى خلاف الأميركيين والبريطانيين الذين يميلون إلى امتلاك عقارات أو أسهم، يضع الألمان مدخراتهم في حسابات مصرفية أو وثائق تأمين على الحياة. ولأن المركزي الأوروبي يبقي سعر الفائدة حول نحو الصفر، فإن عائدات الألمان تتقلص مع الأخذ في الاعتبار صافي التضخم. وهذا يجعل الخبراء يغضبون بشدة بشأن «استيلاء» المركزي الأوروبي على أموال الألمان محبي الادخار. ومن هؤلاء وزير المالية فولفجانج شيوبله الذي ألقى باللائمة في صعود الشعبوية على انخفاض سعر الفائدة.
ويتعين على لاجارد أن تحفز اقتصاد منطقة اليورو التي يتخلف فيها التضخم دون 2%، وهي النسبة التي يستهدفها المركزي الأوروبي. والأسوأ من هذا أن مصرفيي البنوك المركزية في كل مكان قلقون من أن أدواتهم التقليدية قد لا تجدي نفعاً. ولذا يفكرون في استخدام أدوات جديدة تتضمن «أموال الإنقاذ».. لكن هيهات أن يقبل الألمان هذا.
وفي اعتراف بأن السياسة النقدية قريبة من حدها الأقصى، فاتح دراغي حكومات دول اليورو لتحفيز الطلب بسياسة مالية تتمثل في فرض ضرائب أقل وإنفاق أكبر. وهو يوجه خطابه في الأساس إلى برلين التي لديها فائض في الميزانية وترفض ذلك بشدة. والآن حان دور لاجارد في أن توجه خطابها إلى الألمان. ويمكنها أن تخبرهم بالحقيقة، وهي تعارض تقريباً الرؤية الألمانية. فأولاً، يتعين على المركزي الأوروبي أن يبقي أسعار الفائدة منخفضةً لأنه يتعين النظر إلى منطقة اليورو ككل، إذ الأمر لا يتعلق بدائرة انتخابية واحدة، سواء أكانت جنوب أوروبا أم ألمانيا. وثانياً، من الصعب القيام بهذا لأن ألمانيا بسياساتها المالية المقتصدة دون ضرورة قد فشلت في دعم الطلب المجمع.
ولاجارد أكثر حنكة من أن تطرح الموضوع بهذه المباشرة. وهي ليست من مصرفيي البنوك المركزية مثل دراغي، لكنها سياسية أدارت وزارة المالية الفرنسية وصندوق النقد الدولي في ظل أزمات صعبة. وقد صرحت لبلومبيرج مؤخراً أن ما تحتاج إليه هو «المهارات الدبلوماسية والحس السياسي وفهم رؤى وزراء المالية وزعماء دول اليورو». وباختصار يتعين على لاجارد أن تقنع وتداهن وتكسب العقول في ألمانيا على وجه الخصوص.
أندرياس كلوث: رئيس تحرير صحيفة «هاندلسبلات جلوبال» الألمانية الاقتصادية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
وهذا التصور القديم يلقي بظلاله على كريستين لاجارد، وهي فرنسية أيضاً تستعد لتخلف «ماريو دراغي» في رئاسة البنك المركزي الأوروبي في نوفمبر المقبل. ومشكلتها هي أن الألمان، إلى جانب بعض الحلفاء، يعارضون من حيث الفلسفة المبادئ المحورية للتحفيز النقدي التي دفع بها دراغي والتي قد تمضي فيها لاجارد إلى حدٍ أبعد. والانقسام داخل المركزي الأوروبي قائم منذ فترة طويلة، لكنه تكشّف للعيان الشهر الماضي، حين عارض سبعة من 25 عضواً في مجلس المحافظين تقليص سعر الفائدة واستئناف شراء السندات الذي أعلنه دراغي. ولا مفاجأة في أن يكون ينس ويلدمان، محافظ البنك المركزي الألماني، هو من قاد المقاومة مرة أخرى.
والأكثر إثارة للدهشة هو أن سابينه لويتنشلاجر، الألمانية أيضاً، استقالت بسرعة وبطريقة مثيرة للانتباه من المجلس التنفيذي للمركزي الأوروبي. وهي ثالث ألماني في هذا العقد يترك قيادة البنك، احتجاجاً على سياسته النقدية المتهاونة. ثم تقدم مجموعة من مصرفيي البنوك المركزية الأسبوع الماضي بخطاب مفتوح هاجموا فيه المركزي الأوروبي، وكان ثلاثة من الموقّعين على الخطاب ألماناً. فألمانيا ليست مجرد دولة عضو، إنها أكبر حامل أسهم للبنك المركزي بواقع 18% من رأس ماله أو 26% إذا تم الحساب على أساس أسهم الدول التسع عشرة في منطقة اليورو. ولطمأنة الألمان تمت صياغة البنك المركزي الأوروبي على غرار بوندسبانك. وليس صدفةً أن المؤسستين اللتين تتخذان من فرانكفورت مقراً لهما تفصلهما مسافة تقطعها السيارة في نحو 14 دقيقة فحسب.
وفي السنوات «الإيطالية» الثمانية في ظل رئاسة دراغي، فقد كثيرٌ من الألمان ثقتَهم في المركزي الأوروبي. وتعرض دراغي لانتقادات لاذعة في الصحف الشعبية الألمانية، مفادها أنه اتبع سياسة تخدم جنوب أوروبا وليس ألمانيا أو منطقة اليورو ككل.
وهذه الانتقادات تلقَى صدى لدى الألمان العاديين. فعلى خلاف الأميركيين والبريطانيين الذين يميلون إلى امتلاك عقارات أو أسهم، يضع الألمان مدخراتهم في حسابات مصرفية أو وثائق تأمين على الحياة. ولأن المركزي الأوروبي يبقي سعر الفائدة حول نحو الصفر، فإن عائدات الألمان تتقلص مع الأخذ في الاعتبار صافي التضخم. وهذا يجعل الخبراء يغضبون بشدة بشأن «استيلاء» المركزي الأوروبي على أموال الألمان محبي الادخار. ومن هؤلاء وزير المالية فولفجانج شيوبله الذي ألقى باللائمة في صعود الشعبوية على انخفاض سعر الفائدة.
ويتعين على لاجارد أن تحفز اقتصاد منطقة اليورو التي يتخلف فيها التضخم دون 2%، وهي النسبة التي يستهدفها المركزي الأوروبي. والأسوأ من هذا أن مصرفيي البنوك المركزية في كل مكان قلقون من أن أدواتهم التقليدية قد لا تجدي نفعاً. ولذا يفكرون في استخدام أدوات جديدة تتضمن «أموال الإنقاذ».. لكن هيهات أن يقبل الألمان هذا.
وفي اعتراف بأن السياسة النقدية قريبة من حدها الأقصى، فاتح دراغي حكومات دول اليورو لتحفيز الطلب بسياسة مالية تتمثل في فرض ضرائب أقل وإنفاق أكبر. وهو يوجه خطابه في الأساس إلى برلين التي لديها فائض في الميزانية وترفض ذلك بشدة. والآن حان دور لاجارد في أن توجه خطابها إلى الألمان. ويمكنها أن تخبرهم بالحقيقة، وهي تعارض تقريباً الرؤية الألمانية. فأولاً، يتعين على المركزي الأوروبي أن يبقي أسعار الفائدة منخفضةً لأنه يتعين النظر إلى منطقة اليورو ككل، إذ الأمر لا يتعلق بدائرة انتخابية واحدة، سواء أكانت جنوب أوروبا أم ألمانيا. وثانياً، من الصعب القيام بهذا لأن ألمانيا بسياساتها المالية المقتصدة دون ضرورة قد فشلت في دعم الطلب المجمع.
ولاجارد أكثر حنكة من أن تطرح الموضوع بهذه المباشرة. وهي ليست من مصرفيي البنوك المركزية مثل دراغي، لكنها سياسية أدارت وزارة المالية الفرنسية وصندوق النقد الدولي في ظل أزمات صعبة. وقد صرحت لبلومبيرج مؤخراً أن ما تحتاج إليه هو «المهارات الدبلوماسية والحس السياسي وفهم رؤى وزراء المالية وزعماء دول اليورو». وباختصار يتعين على لاجارد أن تقنع وتداهن وتكسب العقول في ألمانيا على وجه الخصوص.
أندرياس كلوث: رئيس تحرير صحيفة «هاندلسبلات جلوبال» الألمانية الاقتصادية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»