الكونُ نفسُه شارك سكانَ الأرض بمرور ربع قرن على نزول أول إنسان على سطح القمر. حدث ذلك في يوليو 1994 عندما ضرب مذنبٌ كوكبَ المشتري، وأحدث انفجاراً بقوة مليار طن متفجرات، وكنتُ أغطي الحدث فورياً، ليس من كوكب المشتري، بل من «مركز غودارد الفضائي» في ميريلاند بالولايات المتحدة، حيث كان علماء وكالة الفضاء الأميركية «ناسا» يرصدون الحدث. و«مثل المحب الولهان الذي لا يستطيع التحرر من أسر الجاذبية الطاغية للمحبوبة التي تحطمه إلى أجزاء قبل أن تلتحم به وتذيبه في كيانها، ترتطم اليوم بقايا مُذّنب في حجم جبل بالمشتري، الذي يُعدُ أكبر كواكب المنظومة الشمسية وأشدها غموضاً وتألقاً». هكذا استهللت تقريري، الذي نشرته الصحيفة على صفحتها الأولى، وتبعته تقارير مشبوبة أخرى على مدى أيام عدة تصف كيف أحدثت ضربات المذنب فجوات في كوكب المشتري بحجم الكرة الأرضية.
والاحتفال هذا الأسبوع بمرور نصف قرن على الحدث أقل درامية، وغاب عنه أول إنسان هبط على سطح القمر. رائد الفضاء «نيل أرمسترونغ» غادر الحياة، وعبارته المشهورة: «خطوة منفردة لشخص واحد.. خطوة عملاقة للبشرية» تثير الآن التساؤلات حول جدوى الرحلات إلى القمر التي كان أول ضحاياها الرئيس الأميركي جون كنيدي، الذي أسس برنامج «أبولو» واغتيل قبل ست سنوات من إطلاق «أبولو11». وتوقفت الرحلات مع «أبولو17» الذي أطلق عام 1972. وأخفق عشرة رؤساء أعقبوه في تأمين تكلفة الرحلة إلى القمر، حسب مؤرخ الفضاء «جون لوكزدون». وصاروخ «ساتورن5» الذي حمل مركبة «أبولو11» وأقيم هذا الأسبوع في موضع نصب واشنطن في العاصمة الأميركية، علامة استفهام عملاقة على المشاريع المطروحة لخصخصة الفضاء، وتنظيم رحلات فضائية سياحية لأصحاب الملايين، وأسوأ من كل ذلك استخدام الفضاء لأغراض عسكرية.
وتثير عبارة «أرمسترونغ» الشجون والتساؤلات عما إذا كانت تلك الخطوة العملاقة «ذروة العظمة الأميركية». يطرح السؤال الكاتب الأميركي «روس داوثت» في تعليقه على فيلم «أبولو11» الذي أُنتج بالمناسبة، ويعرض مشهد عودة «أرمسترونغ» ورفيقه «ألدرن» إلى المركبة التي تعيدهما إلى الأرض. وفي الصمت المطبق للقمر يتردد لحن أغنية أميركية شعبية تثير الحزن، وليس الفخر. «عندما يلد قرن ويموت قرن، لا يفعل ناس كثيرون سوى أفضل ما يستطيعون». هذا الاستسلام النرجسي يعمي عن رؤية ما فعل هؤلاء الناس الكثيرون أفضل ما يستطيعون في حرب فيتنام التي راح ضحيتها مليوني مدني فيتنامي، وأكثر من 85 ألف عسكري أميركي، حسب الموسوعة البريطانية. وغزو العراق لمحو عار هزيمة فيتنام، حيث قُتل نحو ربع مليون عراقي مدني، حسب «بحث إحصاء الأجساد العراقية».
ويغيب عن التغطية الإعلامية للهبوط علي القمر ذكر أخطر حدث فضائي يقرر مصير الكرة الأرضية. كان ذلك موضوع حديث مكتشفة المذنب، الذي يحمل اسمها «شوميكر» التي قالت لي إنها تشعر بالعرفان لكوكب المشتري الذي ربما أنقذ الأرض، عندما اجتذب بقوة جاذبيته المغناطيسية الجبارة المذنب بعيداً عن الأرض وسحقه. وقالت «شوميكر» التي اكتشفت أكثر من 32 مذنباً: «لا أحد يستطيع توقع متى يفلت أحد المذنبات من مدارها البعيد في الطرف الأقصى من المنظومة الشمسية، ويتجه نحو الأرض». ومع أنها تستبعد تكرر ما حدث للديناصورات، التي أبادها قبل 65 مليون عام مذنب اصطدم بالأرض، فإنها تدعو إلى النظر بجدية إلى احتمال وقوع كارثة مماثلة، والاستعداد لها. وكنت أنصت لحديثها عن فترة ما بين سنة وسنتين لظهور مذنب، كالذي اكتشفته، وبلوغه الأرض، وفي ذهني تتردد آية من سورة «الأنبياء» يقول فيها سبحانه وتعالى: «يوم نطوي السماء كَطَيّ السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نُعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين».
*مستشار في العلوم والتكنولوجيا