لعل تزايد قوة الصين على الساحة الدولية أمر مؤكد لا جدال فيه، على غرار التنافس المتزايد مع الولايات المتحدة.
غير أن «شي جين بينغ» وضع نهاية لسياسة الالتزام بموقف لا يثير الانتباه على الساحة الدولية، السياسة التي كان ينتهجها «دينغ شياو بينغ». فهذا الأخير، والذي أعاد الاعتبار إلى كونفوشيوس، كان شعاره «حافظ على الهدوء والتزم بموقف لا يثير الانتباه. ولا تقم أبداً بالتجاوز، لكن افعل دائماً شيئاً عظيماً». أما «شي» فيؤكد بصوت عال أن الصين مصيرها أن تصبح مجدداً القوة العالمية الأولى. وقد كان هذا رأي «دينغ» دائماً، لكنه لم يكن يتحدث عنه أبداً. وبالمقابل، فإن «شي» يفكر فيه يومياً ويعلنه بانتظام.
لكن بالتوازي مع ذلك، أدرك «شي» أهمية «القوة الناعمة» التي يفترض أن تساعد على جعل الآراء العامة العالمية تقبل تأكيد «القوة الصلبة» الصينية. كما أدرك أن الصين تعاني من تأخر كبير في ما يتعلق بالقوة الناعمة، وخاصة إزاء الولايات المتحدة.
إن الزمن الذي لم تكن تعير فيه بكين حركات الرأي العام وزناً قد ولّى. وبالطبع، فإن الصينيين لن يبنوا سياستهم على الكيفية التي تنظر بها المجتمعات المدنية الغربية أو العالمية إليهم، لكنهم يرغبون في تقليل نظرتها السلبية لهم إلى أقصى حد ممكن، بل وحتى إغرائها.
كما تحتاج بكين إلى أن تكون جذابة ثقافياً. وفي هذا الإطار، أخذت الصين تنفتح على السياحة التي كانت ممنوعة في السابق، وكذلك على برامج التبادل الجامعي، وتريد أن يكون لها حضور في مجال التسلية والترفيه وسد جزء من العجز الكبير أمام هوليود. كما أخذت مراكز الأبحاث والدراسات الصينية تتضاعف وتتعزز عبر المشاركة على نحو نشط وفعال في نقاش الأفكار الدولية. وقد ولى الزمن الذي كان يندر فيه وجود خبير صيني في المنتديات الدولية، وإن وُجدَ كانت تقتصر مشاركته على القراءة الحرفية لنص تلقى عدداً من خواتم التصديق والموافقة قبل اعتماده. فاليوم، ضاعف الخبراء الصينيون تدخلاتهم في المنتديات واللقاءات مع نظرائهم الأجانب، داخل الصين وخارجها.
وقد أدركت الصين أن تاريخها وثقافتها يمثلان عنصر جذب ذا شعبية كبيرة ويسمح بالحديث عن أشياء أخرى غير طبيعة نظامها. وفي هذا الصدد، تضاعفت معاهد كونفوشيوس في العالم، وهناك اليوم إقبال لافت على تعلم اللغة الصينية واكتشاف الشخصيات الثقافية والفكرية الصينية الكبيرة. وفي هذا الإطار، يمكن القول إن «سون تزو»، الذي يعد أول مفكر استراتيجي في تاريخ الإنسانية، لا يمكن إلا أن يثير الفضول والإعجاب، وخاصة في هذا الوقت الذي يلاحظ فيه اهتمام كبير بالجيوسياسة. ويبدو أنه الوسيلة التي اختارتها الصين لغزو القلوب والعقول، لاسيما أن هذا العسكري لم يكن تواقاً للحرب، بالمعنى الكلاسيكي للكلمة.
ولم يعد «الحزب الشيوعي الصيني» يريد محو كل شيء قديم، وإنما ربطه بالحاضر. فـ«ماو تسي تونغ» كان يريد محو تاريخ الصين وجعله يبدأ مع الثورة واستيلائه على السلطة «1949، السنة 0». فقد مثلت «الثورة الثقافية» إلغاءً لتاريخ البلاد وتدميراً لتراثها المادي والثقافي. وفي 1973، أطلق «ماو» حملة «انتقد لين، انتقد كونفوشيوس» التي نبذت كلا من لين بياو، مساعد ماو الذي اعتُبر فجأة خائناً، وكونفوشيوس الذي كان يعده الشيوعيون الصينيون رمز الفكر الرجعي. وهكذا، رُبطت الكونفوشيوسية بالطبقات الحاكمة القديمة. وبالنسبة لماو، كان كونفوشيوس مسؤولاً عن «تأخر» الصين مقارنةً بالقوى الغربية واليابان.
من كان يتوقع أن يختار الحزب الشيوعي الصيني، وقد رسخ أقدامه في السلطة، اسمَ كونفوشيوس ليطلقه على المعاهد الصينية المقامة في الخارج لنشر الإشعاع الدولي للصين؟ الواقع أنه لا أحد كان سيراهن أصلا على الإقلاع الاقتصادي للصين الذي يعزى إلى تطبيق وصفات الرأسمالية. واليوم، تمثل القومية والنجاح الاقتصادي الرافعتين الرئيسيتين لشرعية الحزب الشيوعي الصيني. وضع أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه ينم عن مفارقة كبرى بالنسبة لأكبر بلد يتبنى أفكار كارل ماركس، الذي كانت أطروحاته تدعو لتدمير الرأسمالية وحلول الشيوعية على الصعيد العالمي، ما سيمحو الحدود الوطنية.
بيد أنه في ما يتعلق بالقوة الناعمة، يظل التقدم الأميركي كبيراً.
*مؤسس ومدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية -باريس