نشر الكاتب الاستراتيجي السعودي عبد العزيز الصقر بصحيفة «نيويورك تايمز»، مقالةً مشتركةً مع كاتب إيراني، أطلقا فيها الدعوة إلى كلٍ من السعوديين والإيرانيين للتفاوض بشأن معالجة المشكلات القائمة بينهما. وحجة الرجلين أنّ الضرر صار كارثياً، وقد تدخلت فيه الولايات المتحدة وروسيا والصين وأطراف أخرى، ويوشك أن يتسبّب في حربٍ شاملة. وفي كل آنٍ يعلن كل طرفٍ عن حسن نيته، وأنه هو المعتدى عليه، وأنه يريد علاقات حسن الجوار. فلماذا لا يجلس الطرفان، ولو بمبادرةٍ من وسيطٍ أو طرفٍ ثالث، إلى طاولة التفاوض من أجل حلّ المشكلات واحدةً واحدة؟! الضرر ما عاد يمكن احتماله من الطرفين، وستتحقق بالتفاوض فوائد كبيرة ولو بالتدريج، وسيجد كل طرفٍ أنّ مصالحه تظل متحققة دونما حاجةٍ للإضرار بمصالح شريكه في الوجود والعيش والثقافة والجوار.. إلخ.
ليست هذه المرة الأولى التي يجري فيها طرح فكرة التفاوض على حلولٍ للمشكلات المشتركة. إنما كانت لكل طرفٍ تحفظاته إذا صحَّ التعبير. فالإيرانيون يقولون إنّ الولايات المتحدة تريد الآن إرغام إيران على التفاوض بشروطها الاثني عشر، والتي تجرد إيران من كل شيء، بل وتؤدي لسقوط نظامها وشيوع الفوضى فيها. ويوم الخميس الماضي 16/5/2019 نشر صحفي لبناني نصير لإيران مقالةً قال فيها إنّ الولايات المتحدة هي التي تحتاج الخضوع للشروط الإيرانية في التفاوض؛ لأنّ إيران تملك جيوشاً وأنصاراً في أربع أو خمس دول عربية، وتستطيع تعطيل الملاحة في مضيق هرمز وخارجه، والأميركيون وغيرهم من الغربيين مهددون الآن بالخروج من الشرق الأوسط كلّه، وإذا قرر الأميركيون مهاجمة إيران مباشرةً فمن سينتصر أخيراً؟ فها هم الأميركيون قد احتلوا العراق، وما يزال لهم وجودٌ فيه، فمن الذي يسيطر عليه اليوم؟ وماذا عن لبنان؟ ألا يسيطر عليه المسلحون من أنصار إيران؟ لا يأمن الأميركيون إلا في الخليج، لكنّ الإيرانيين يستطيعون أن يجعلوا عيشهم صعباً هناك. وماذا عن الحوثيين الذين يهددون كل دول الخليج والملاحة الدولية ومنابع النفط في البر والبحر ومن الجو أيضاً؟! الأميركيون هم المحتاجون للتفاوض مع الإيرانيين وليس العكس. ويعترف الكاتب (وهو إبراهيم الأمين في جريدة «الأخبار» اللبنانية) أخيراً بأنّ الأميركيين ضايقوا إيران بالفعل في مسألة تصدير النفط، ومحاولة إخراجها من النظام النقدي العالمي، لكنّ قدرات المقاومة لدى إيران ستضطرهم لطلب التفاوض، وقد بدأ ترامب يقوم بذلك أمام ارتفاع أخطار الحرب!
ورغم «البهورات» الظاهرة في كلام إبراهيم الأمين، تبقى حقائق ظاهرة: أنه في العقود الماضية اجتذبت إيران كثيراً من الجماعات الشيعية في منطقة المشرق والخليج، وصنعت بداخلها ميليشيات مسلحة تتبعها، وحالفت ميليشيات أخرى في فلسطين وأفغانستان. وهي تعتمد في بلوغ أهدافها الاستراتيجية على قدرات الميليشيات في الإعاقة والتخريب للبلدان التي اخترقتها. إضافةً لحساسية الممرات البحرية التي تستطيع إزعاج الإبحار فيها بالزوارق السريعة.
ما تريده الولايات المتحدة (والأوروبيون والعرب) من إيران تغيير أهدافها الاستراتيجية أو ما تعتبره مصالح استراتيجية. وهي مصالح مزعومةٌ أدت حتى الآن إلى تخريب كبير في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وإحداث اضطراب في عدة نواحٍ من حياة شعوب المنطقة، وحياة العالم: حتى في فنزويلا!
فهل يستطيع الحصار مضايقة إيران إلى حد دفْعها للتفاوض بشأن ميليشياتها المسلحة وتدخلاتها في البلدان، والخروج من قصة الصواريخ الباليستية؟ أم أنّ الأمور تندفع باتجاه حربٍ شاملةٍ تجري على أرض المنطقة العربية وبحارها وأجوائها، ويشيع خلالها الخراب حتى في إيران، وتخرج مع ذلك بانتصار إلهي، كما يحصل عادةً؟!
هذا المشهد الملحمي الذي يشبه أمارات نهاية العالم، لا يختلف كثيراً عن الرؤية المهدوية للنخبة الحاكمة في إيران. وإذا قيل إنّ هذا لا يمكن أن يعتقده أشخاص عقلاء، فأُذكّر بأنّ الرئيس رونالد ريغان كان يعتقد بحصول ملحمة «الهرمجدون» شرطاً لعودة المسيح من أجل خلاص العالم!