يؤكد دونالد ترامب رغبته في القطع مع سياسة الهيمنة الليبرالية التي اتبعها الرؤساء السابقون منذ نهاية الحرب الباردة. سياسة أدت، باسم النوايا الحسنة لنشر الديمقراطية، إلى تدخلات عسكرية لم تسفر سوى عن الكوارث. والواقع أن باراك أوباما اعترف بأن مشاركة الولايات المتحدة في التدخل العسكري في ليبيا، مثّلت أسوأ خطأ في ولايتيه الرئاسيتين. والحق أنه كان متردداً في ذاك التدخل، ولم يقبل به إلا بعد ضغط قوي من قبل هيلاري كلينتون التي كانت وزيرة للخارجية وقتها.
كما أكد ترامب رغبته في التقرب من روسيا والابتعاد من حلف «الناتو». لكنه لم يستطع القيام بذلك، لأن بنية الأمن الأميركي منعته من ذلك. كما لم يستطع وضع حد للوجود العسكري الأميركي في سوريا أو في أفغانستان بشكل كامل، مثلما كان يريد، حيث كانت الكلمة الأخيرة للبنتاجون والأجهزة الأمنية الأميركية.
لكن ترامب لا يريد التخلي عن سياسة هيمنة ليبرالية من أجل تبني سياسة متعددة الأطراف، وقد فهم الجميع ذلك. فشعاراه «لنجعل أميركا عظيمة من جديد» و«أميركا أولاً»، يعكسان رغبته في رؤية أميركا وهي تهيمن على العالم وتفرض إرادتها. لكن ترامب، المختلف كلياً عن أوباما، يشترك مع هذا الأخير في نقطة واحدة: أن أميركا لم يعد يمكنها أن تكون دركي العالم، بالمعنى العسكري للكلمة.
ولا شك أنه ترك على الطاولة، رسمياً، خيار تدخل عسكري في فنزويلا قائماً، كما أن مثل هذا التدخل ليس مستبعداً كلياً بخصوص إيران. غير أن ترامب اختار طريقاً آخر من أجل ترسيخ الهيمنة الأميركية: التهديد بعقوبات بالاعتماد على جاذبية السوق الأميركي، وعلى التطبيق المتزايد لتشريع أميركي ذي طابع ممتد إلى خارج الحدود الأميركية.
آدم سوبين (وكيل وزارة الخزانة الأميركية لشؤون الإرهاب والذكاء الاقتصادي في عهد أوباما)، وباولا دوبريانسكي (وكيلة وزارة للشؤون العالمية في عهد جورج دبليو. بوش)، نشرا مؤخراً تقريراً حول «الحفاظ على القوة الاقتصادية القهرية لأميركا». وهدفهما هو الحفاظ على قدرة قهرية للولايات المتحدة، وليس الانتقال إلى سياسة متعددة الأطراف. وللإبقاء على هذه القدرة تحديداً، انتقدا السياسة التي يتبعها ترامب. إنهما يريان أن الاستخدام الشرس للعقوبات يمكن أن تكون له في نهاية المطاف تداعيات سلبية، سواء على الصعيدين الاقتصادي أو الدبلوماسي، بالنظر إلى المعارضة المتزايدة التي تثيرها تلك العقوبات. وإلى ذلك، فإن تلك العقوبات تُعتبر غير قانونية بالنظر لطابعها الممتد خارج الحدود الأميركية. ويخشيان أن يؤدي نشاط الكونجرس حول هذه المواضيع (إذ ما زال من الرائج إعلان عقوبات ضد البلدان التي لديها صورة سيئة) إلى الحد من حرية تحرك الجهاز التنفيذي.
وإلى ذلك، فإن العقوبات قد تتسبب في تأثيرات سلبية غير مرغوب فيها (مثل ارتفاع أسعار الطاقة أو المواد الأولية). غير أن معدي التقرير يحذران خصوصاً من تنامي جهود حكومات أجنبية (روسيا، الصين، وبعض دول أوروبا) من أجل الالتفاف على العقوبات التي تدفعها إلى أخذ مسافة من النظام المالي الأميركي، والذي يكاد يكون لا غنى عنه حتى الآن. وبالتالي، فهذا الأمر يمكن أن يُضعف دور الدولار في نهاية المطاف. وفي النهاية، يقول مؤلفا التقرير، إن الاستخدام المفرط للعقوبات يمكن أن يُضعف قوةَ الولايات المتحدة.
ويريد ترامب أن يبدو قوياً، لكنه قبل كل شيء رجل براغماتي. فرغم تفاخره وشططه، فقد اضطر للتراجع عندما أجبره ميزان القوة على ذلك. ولعل أبرز مثال على ذلك كان عندما لوّح الاتحاد الأوروبي بالرد على تهديده بزيادة الرسوم الجمركية على استيراد المنتجات الأوروبية، بتعرفات مماثلة على المنتجات الأميركية المصدَّرة إلى أوروبا.
وخلاصة القول هي أن الإكثار من التهديد بعقوبات، ومفعولها الممتد إلى خارج الأراضي الأميركية، يضع البلدان الأخرى أمام بديل بسيط: إما أن تتنازل وتُدخلنا بحق في العالم أحادي القطبية الذي حلم به القادة الأميركيون بعد نهاية الحرب الباردة، والذي لم يصبح حقيقة حتى الآن.. وإما أن ترد عبر التخلي عن الدولار كعملة لمبادلاتها الدولية، وحينها يمنى رهان ترامب بالفشل.
الاختبار الآن هو رؤية ما إن كانت عمليات شراء النفط ستتم بعملة أخرى غير الدولار.
*مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية -باريس