في لحظة مفصلية، أعلن دونالد ترامب، الرئيس الأميركي، إلغاء وزارة التعليم، مستنداً إلى ما عَدّه تراجعاً مزمناً في المخرجات التعليمية، وضعفاً متراكماً في الأداء برغم ما يُرصد للتعليم سنويّاً من أموال طائلة. ومع أن القرار جاء ضمن خطاب سياسي مشحون، فإنه يفتح باباً مهمّاً لمراجعة البنية العميقة للنظم التعليمية، وعلى رأسها المركزية والبيروقراطية اللتان تُثقلان كاهل التعليم، وتُقيدان حيويته.
ولم يكن قرار ترامب نابعاً من فراغ، بل جاء تتويجاً لعقود من الأداء التعليمي المتعثر، الذي عجزت المركزية الإدارية عن انتشاله، فقد تحولت وزارة التعليم في السياق الأميركي، كما في العديد من الأنظمة الأخرى، من جهة تنظيم وتوجيه إلى كيان بيروقراطي معقّد يستنزف الجهد في الإجراءات، ويُبعد القرار عن المدرسة، حيث تبدأ وتنتهي العملية التعليمية. ومن هنا أصبحت المدرسة خاضعة لتوجيهات عليا لا تراعي السياق المحلي، ولا تُمكّن القادة التربويين من الاستجابة لتحدياتهم الفعلية، ولا تحقق الغايات التعليمية التي أُنشئت من أجلها.
والنتيجة لم تكن ضعفاً في السياسات فقط، بل انخفاضاً حادّاً في فاعلية التعليم، وتآكلاً في ثقة المجتمع بمؤسساته التربوية أيضاً، ومن هنا يبرز السؤال المشروع: هل يكمن الحل في تفكيك المركزية، ومنح المناطق التعليمية والمدارس استقلالية حقيقية؟
قدمت تجارب عالمية متقدمة –في فنلندا، وكندا، وسنغافورة على سبيل المثال– إجابات عن هذا السؤال فعلاً، إذ اختارت أنظمتها التعليمية أن تتجاوز النموذج الهرمي الجامد، باتجاه نماذج تشاركية أكثر مرونة تُوزع الأدوار بين الوزارة والميدان، وتُعيد الثقة إلى المدرسة بصفتها وحدة قيادة، لا أداة تنفيذ فقط. ولعل المشترك في هذه التجارب هو أن الانتقال نحو اللامركزية لم يكن خطوة تقنية، بل خياراً استراتيجيّاً مدروساً استند إلى نضج مؤسسي، وكوادر مؤهلة، وثقافة مساءلة فعّالة. والهدف لم يكن تقليص البيروقراطية فقط، بل تحقيق الفاعلية أيضاً، أي أن تُتخذ القرارات الأقرب إلى موقع التعلم، وأن تتاح للميدان حرية الابتكار والاستجابة الفورية من دون انتظار سلسلة من الموافقات المركزية التي تُبطئ التغيير، وتُطفئ روح المبادرة.
وبرغم ذلك، فإن اللامركزية ليست وصفة سحرية تصلح في كل سياق، بل تتطلَّب جاهزية حقيقية: هياكل واضحة، وقيادة مدرسية ناضجة، ونظامَ مساءلة ذكيّاً. أما إلغاء المركزية من دون تهيئة، فلا يفضي إلا إلى فراغ تنظيمي قد يعمّق المشكلات بدل حلها.
إن ما كشف عنه قرار ترامب –ولو بنحو غير مباشر– هو فشل النموذج الإداري التقليدي حين يغيب عن الميدان، ويستغرق في البيروقراطية. ويبقى سؤالان مفتوحان أمام الأنظمة التعليمية كافة: هل نُصلح النظام من مركزه، أو نعيد بناءه من قاعدته؟ وهل نملك الجرأة على إعادة تعريف دور الوزارة، لا بصفتها مقرّاً للقرار، بل منصة تمكين تزرع الثقة، وتُفعّل كل مستوًى في المنظومة ليؤدي دوره باستقلال وكفاءة؟
 *مستشار مدير جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.