على مدى عقود، استشهد الأميركيون بتحذير السيناتور «الجمهوري» عن ولاية ميتشيجان، آرثر فاندنبيرج، عام 1947، بأنّه رغم النزاعات الداخلية في واشنطن، فإنَّ «السياسة الحزبية تتفق خارج حدود البلاد». لم يكن يقصد أن المسؤولين المنتخبين يتفقون دائماً في السياسة الخارجية – فقد كان هناك من يؤمن بالانفتاح الدولي وآخرون يميلون إلى العزلة.
لكنه كان تذكيراً بأن استراتيجيتنا الخارجية تستند إلى مبادئ الحرية وتقرير المصير والسيادة الوطنية أكثر من كونها قائمة على المصالح الذاتية. على سبيل المثال، لم تكن خطة مارشال مصممة لاستخراج الثروة من حلفائنا، بل لبناء ثروة أوروبا، مما أنقذ الغرب من التلاعب السوفييتي. كان هناك إجماع بين الحزبين على أن دور واشنطن يتمثل في أن تكون قوة من أجل السلام والازدهار في الداخل والخارج. بيد أن قرار الرئيس دونالد ترامب بتوبيخ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي علناً في المكتب البيضاوي مزّق تلك القواعد. فعلى مدى عقود، اعتمدت دول مثل ألمانيا وبولندا وكوريا الجنوبية جزئياً على الولايات المتحدة لضمان أمنها الوطني، أما الآن، فستشعر هذه الدول بأنها مضطرة للدفاع عن نفسها بشكل مباشر.
لا يمكن إنكار حاجة الولايات المتحدة إلى المزيد من المعادن الحيوية. ولكن ما نعتقد أن أوكرانيا قد توفره يعتمد على دراسات جغرافية قديمة. حتى لو كانت هناك حقوق لاستخراج المعادن، فقد يستغرق الأمر 18 عاماً لاستغلالها. ما يمكن أن تقدمه أوكرانيا لنا على الفور هو أمر أكثر قيمة بكثير. وينبغي على الولايات المتحدة أن تسعى إلى الحصول على ما هو موجود، ليس تحت الأرض في أوكرانيا، بل على ارتفاع 100 قدم في الهواء. نحن بحاجة إلى تكنولوجيا الطائرات المُسيّرة في كييف.
خلال فترة عملي في طوكيو، أدركت أن القاعدة الصناعية الدفاعية الأميركية باتت تشكل تهديداً متزايداً لأمننا القومي. أولاً، يستغرق نظام المشتريات في البنتاجون وقتاً طويلاً لطلب أنظمة أسلحة جديدة، لدرجة أن المواصفات المطلوبة تصبح قديمة حتى قبل اختيار المتعاقد لتنفيذها. ثم هناك الشركات العسكرية الكبرى التي تُسلِّم الأسلحة متأخرة وبتكلفة تتجاوز الميزانية بشكل شبه دائم. الأسوأ من ذلك، أن هذه الشركات تضع البنتاجون في موقف صعب: ففي عام 2023، اشترت شركتا «لوكهيد مارتن» و«رايثيون» أسهمهما بقيمة 18.9 مليار دولار، مما زاد من ثروات المساهمين والمديرين التنفيذيين، بينما استثمروا فقط 4.1 مليار دولار في تحسينات رأسمالية تتعلق بالأمن القومي الأميركي.باختصار، تتم مكافأة الشركات الفاشلة في الالتزام بالميزانيات والجداول الزمنية.
أما أوكرانيا، فهي توفر للولايات المتحدة حلاً جاهزاً لهذا التهديد الأمني. فقد أنفقت وزارة الدفاع مليارات الدولارات للحاق بركب الثورة في مجال الطائرات المُسيّرة، بعد أن فوجئت بتطورها السريع. وعندما اندلعت الأزمة الروسية الأوكرانية، كان لدى كييف شركة عسكرية واحدة غير فعالة. لكن في السنوات الثلاث الماضية، طوّرت حكومة زيلينسكي قطاعاً محلياً للطائرات المُسيّرة يضم 500 شركة ريادية أصبحت محطّ إعجاب العالم. بعبارة أخرى، لدى أوكرانيا ما نحتاجه بشدة. في عام 2024، أنتجت أوكرانيا 1.2 مليون طائرة مُسيّرة، العديد منها بمدى يزيد على 180 ميلاً، ومن المتوقع أن تنتج 4 ملايين طائرة مُسيّرة في 2025. إن القاعدة الصناعية الدفاعية الأوكرانية تحقق في أسابيع ما فشل نظام المشتريات في البنتاجون في تحقيقه لعقود – أي إنتاج أنظمة أسلحة حديثة، مُختبرة ميدانياً، وجاهزة للاستخدام الفوري في ساحة المعركة. لو حصلت الشركات الأوكرانية على استثمار أميركي، فبإمكانها إنتاج ثلثي الأسلحة التي تحتاجها أوكرانيا للدفاع عن نفسها. وعندها، سيكون لديهم لأول مرة قوة ردع محلية الصنع منذ سيطرة موسكو على القرم عام 2014. بكل بساطة، تحتاج الولايات المتحدة بشدة إلى التكنولوجيا التي طوّرتها أوكرانيا بشكل عضوي. ولهذا السبب، إليكم ما يمكن أن يُسمى بـ «فن الصفقة»: يجب على الولايات المتحدة ترخيص تكنولوجيا الطائرات المُسيّرة الأوكرانية التي تم اختبارها في المعارك، والتي تُنتج بكميات هائلة وفي الزمن الفعلي، مما يلغي بين عشية وضحاها إحدى أكبر نقاط الضعف الاستراتيجية لدينا.
ومع وجود رسوم الترخيص في متناول اليد، فسيكون لدى الأوكرانيين الموارد التي يحتاجونها لبناء قوتهم، وربما الأهم من ذلك، أن هذه الاتفاقيات ستضخ روح الابتكار في نظام المشتريات الأميركي العتيق. وهذا يقودنا إلى قضية إيلون ماسك ومجموعته الصغيرة من أعضاء وزارة الكفاءة الحكومية. ورغم عيوبه، يعرف ماسك كيف يُحدث ثورة في العمليات الصناعية، خاصة في مجال الدفاع. لو كان القطاع الصناعي الأميركي ينتج السفن والغواصات والصواريخ والأسلحة الأخرى وفق الجداول الزمنية والميزانيات المحددة – ولو تم إصلاح هذه الفوضى الحالية بروح «تسلا»، و«سبيس إكس»، و«ستارلينك» – لكان ماسك ورفاقه قد أدّوا خدمة عامة يمكن أن يدعمها الحزبان.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنح آند سينديكيشن»
* السفير الأميركي في اليابان من عام 2021 إلى عام 2025