تتطور التكنولوجيا بوتيرة سريعة، بينما تَظهر الآثار الناتجة عنها لاحقاً، بما في ذلك على السِّلم والأمن الدوليين، غير أنّنا يُمكِننا توجيه هذه التكنولوجيا إلى السلام، وجهود حل النزاعات، والأعمال الإنسانية والإغاثية، خصوصاً إذا كانت مثل الذكاء الاصطناعي، بتطوره السريع وتطبيقاته ونماذجه المتعددة، والبداية قد تكون من التفكير في كيفية نشر السلام باستخدام تقنيات تعلّم الآلة في التنبّؤ بالصراعات، والبحث عن آليات تجنح إلى عمليات السلام، ومنع نشوء نزاعات جديدة.وفي الاتجاه المقابل، لا نُغفل أن دمج الذكاء الاصطناعي في العمليات العسكرية يتسبّب في سقوط كثير من الضحايا المدنيين، ويمكن ضبط عسكرة التقنيات في إطار دولي ينظم قواعد ومعايير تَحدّ من استغلال وتطوير ونشر أنظمة أسلحة فتاكة قادرة على التدمير دون تدخّل بشري، وحتى الأسلحة التقليدية قد تصبح أكثر تدميراً بواسطة الذكاء الاصطناعي، الذي قد يغير طبيعة الحروب، وفي النهاية، يمكن للآلات اتخاذ قرارات حاسمة، حيث يمكن لأنظمة ذاتية القرار التسبّب في اندلاع نزاعات وحروب سيبرانية، دون أي اعتبار للأبعاد الإنسانية.
وبإمكاننا الاستفادة من تعلّم الآلة في رصد مؤشرات التصعيد قبل الوصول إلى مرحلة العنف القصوى أو الحرب المفتوحة، بمتابعة وتيرة العنف المحلي والصراعات الداخلية والحدودية، لتقديم رؤية واضحة للوقاية وتجنّب النزاعات، وتوفير تكنولوجيا قائمة على الذكاء الاصطناعي لما بعد الصراع تساعد في تدريبات لقوات حفظ السلام، لرفع القدرات والمساعدة في نجاح المهام. ومشاركة مثل هذه التكنولوجيا من الأمم المتحدة مع البلدان المختلفة، خصوصاً الأقل في النمو، قد يرفع كفاءة التدريب للجنود في عمليات حفظ السلام.
وعلى الجانب الإنساني، يحسّن الذكاء الاصطناعي الاستجابة الإنسانية، وقد يخفّف معاناة المدنيين، خصوصاً إذ استُغِلّ في تحسين نظم الإنذار المبكر للكوارث الطبيعية والأزمات الإنسانية، وبالتالي التخطيط والاستجابة الفعالة، ويمكن المساعدة في تقديم الرعاية الصحية والإنسانية في المجتمعات المنكوبة من الكوارث والحروب، من خلال تحليل البيانات الصحية، والتشخيص الطبي، وتقديم التوصيات للأطباء، واقتراح الأدوية.
وباستطاعة نماذج الذكاء الاصطناعي مراقبة لغة الخطاب في وسائل الإعلام بأشكالها التقليدية والحديثة في مناطق الصراع، أو المرشحة للصراع، لمتابعة ومعالجة خطاب الكراهية، أو المؤشرات الأولية للاضطرابات الداخلية، أو احتمالات نشوب صراعات خارجية، فالأنظمة الذكية قادرة على تحليل الأفكار والمشاعر، ما يتيح فَهم ردود فعل الجماهير وتوجهاتهم، ويمكن توقّع الأزمات المستقبلية المحتملة من خلال تحليل الأنماط التاريخية. وفي حالات الصراع على الموارد كالمياه، يمكن للذكاء الاصطناعي جمع المعلومات من تقنيات الأقمار الاصطناعية مثلاً، وتحليل الاحتمالات من البيانات الهائلة المتاحة، للمعالجة ببدائل قبل حدوث الكارثة.
وكما للذكاء الاصطناعي من استخدامات في نشر المعلومات المضلِّلة ربّما تُضعف المجتمعات من الداخل، يمكننا الاعتماد عليه في تدقيق المعلومات، وتحليل البيانات بشكل أفضل، ما يمكّن من اتخاذ قرارات استراتيجية تعزّز استقرار المجتمعات، وتوفر حلولاً فعالة لقضايا الأمن الداخلي والدولي، باكتشاف التهديدات المحتملة، واقتراح حلول ناجعة لها.
ولضبط توازن الذكاء الاصطناعي بين قوة الحرب والسلام، يتطلّب وجود «إطار أخلاقي عالمي» يُلزم الدول بقواعد لا تنحرف بنا إلى الهلاك، ولا تعطل التطور التكنولوجي، بل تدعم التنافس في نشر السلام والتنمية المستدامة، مع إنشاء هيئة رقابة دولية للذكاء الاصطناعي، ومعايير تتعلق بشفافية أنظمة الذكاء الاصطناعي، وحماية البيانات وخلوّها من الانحيازات.
إن تقنيات الذكاء الاصطناعي أضحت قوة قادرة على ارتكاب العنف والمشاركة في الحروب، كما بمقدورها تحسين العلاقات الدولية متعدّدة الأبعاد، ومعالجة البيانات لفهم الخلفيّات المعقدة للنزاعات، وتحديد الأنماط والاتجاهات المختلفة، ودورنا نحن البشر في إدارة الذكاء الاصطناعي، بما يضمن تحقيق التوازن بين التقدم التكنولوجي والحفاظ على القيم الإنسانية، حتى لا ينفرط عقد الذكاء الاصطناعي ويكون أداة للتدمير وليس للتنمية المستدامة.
*باحث - مركز تريندز للبحوث والاستشارات.