لم يكن الصّيام، بالطريقة التي يصوم بها المسلمون، ذا بعد فردي أبداً، فالتّوجيه بالصيام هو توجيه للجماعة المسلمة بغرض تحقيق أمّ فضائلها، فضيلة التّقوى. والعناية بالصّيام هو عناية بتوحيد مشاعر المجتمع في أيام معلومات، وتوحيد سلوكهم في مدد معروفات، تدريباً لهم على التّضامن ظهراً وبطناً، لما للوحدة من أهمية في رصّ اللّبنات المكونة للمجتمع، إذ المجتمع المرصوص أدعى إلى تحقيق أهدافه، وأقدر على مواجهة التحديات.
طبعا، لم يكن الصّيام خاصية المسلمين وحدهم، بل كان الصيام سُنّة في الأمم ما قبل الإسلام، وهي ما تزال ناموساً في كثير من المجتمعات، ولا ينبغي الغفلة عن ما يحدثه هذا السّلوك القائم على القمع إذا نحن استعرنا عبارة فرويد، أو على الرياضة إذا استعرنا عبارة أهل العرفان، أو على التطهير إذا نحن استعرنا عبارة أفلاطون، من إذكاء الإحساس بالعمل المنتج، إذ هو سلوك يحرّر الإنسان من ضغوط المعيش اليومي بإغراءاته الجامحة. لقد كان كثير من الفلاسفة، وبخاصة القدماء منهم، يعتبرون الوقوف عند اللّذات الجِسمية قصوراً عن الحكمة وتفويتاً لتحقيق الكمال الإنساني المنذور له هذا الإنسان لوجوده على ظهر أرض هو مكلَّفٌ بعمارتها، وكيف يَعمُرها إذا شغلته مطالبه الآنية عن مطالب عشيرته الأولى ومجتمعه الحاضن.
إنّ الصّيام يعلّم الغيرية، وهي الطريق الملكي إلى سعادة المجتمع ككل، إذ الأنانية البغيضة مدمّرة كما يعلمنا التّاريخ القريب والبعيد. فضلاً عن أن الصيام يمنح للفكر وضوحه مما يجعل التفكير موضوعياً يتحرر من الذّات المتمركزة حول نفسها من أجل ذات «إبستيمية» تتوسل بالمفاهيم الواضحة المتميّزة وليس بالمشاعر المختلطة المضطربة التي هي إلى أن تُضلِّل أقرب منها إلى أن تَهْدي وتُرْشد. لقد حَرَصت الأمم على وضع سنن للمجتمعات تُذَكِّرُها باستمرار بالقيم التّي تلحمها، ومنها القيم التي تَرْشَحُ عن العبادات التي تمارسها، ولم تبح لأحد حرية المساس بها لما قد يؤدي ذلك إلى تداعي أركان المجتمع، وفي ذلك ضرر على الأفراد من جهة، وتَصدّع للعلاقات الاجتماعية من جهة أخرى، ومن هنا أهمية «الشّخصية القاعدية»، التي تُشكّل أساس المشترك الثقافي لجميع أفراد المجتمع، باعتباره ذلك الكلّ المعقّد الذي يشمل المعرفة والاعتقاد والفن والأخلاق والقانون والعرف والعادات التي يكتسبها الفرد بوصفه عضواً في المجتمع. وكذا أهمية نجاح الفعل البشري الذي أصبح لا يتحقق إلا بالتّوافق مع القوانين الموضوعية للتّطور التّاريخي، إذ المجتمع البشري ليس تجمع أفراد يسعون وراء مصالحهم الخاصة، بل هو كائن عضوي حيّ يبقى عبر الزمن، ينمو، ولا يتم تشكيله.
إن المجتمع الآمن يوفِّر بيئة داخلية مستقرة للإبداع، فيسمح لأبنائه بنمو قدراتهم على إيجاد حلول غير مألوفة للمشكلات المطروحة، وهو ما لا يتمُّ إلا بالقدرة على رؤية ما لا يراه الآخرون، إذ المبدعُ هو القادر دوماً على إضافة جديدة إلى معارف مجتمعه، بل إلى المعارف الإنسانية جميعها، ولا يكون ذلك إلا في مجتمع يضمن ضروباً عالية من الاستقرار النفسي والاجتماعي لأفراده. ومن هنا أهمّية العبادات في ذلك، ولعل عبادة الصوم أن تكون الشّجرة الظليلة التي تتفيأ تحتها كل العبادات الأخرى، لأن قصدها الأكبر لا يعدو أن يكون قصد العبادات كلها.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.