(94) وَأَنِّي رَأَيتُ الضُّرَّ أَحْسَنَ مَنْظَراً * وَأَهْوَنَ مِنْ مَرْأَى صَغِيرٍ بِهِ كِبْرُ

(الضُّرُّ): يُرِيدُ بِهِ هُنَا الفَقْرَ، وصُعُوبَةَ الأَحوَالِ، وَتَعَثُرَ الأُمُورِ. (صَغِيرٌ): مُرَادُهُ بِالصَّغِيرِ فِي هَذَا المَوْضِعِ: صَغِيرُ القَدْرِ وَالهِمَّةِ وَالمَكَانَةِ وَالقِيمَةِ، لا صَغِيرُ العُمْرِ.

المعنى: يَقُولُ الشَّاعِرُ: إِنَّ الفَقْرَ وَسُوءَ الحَالِ أَفْضَلُ عِنْدِي مِنْ رُؤْيَةِ شَخْصٍ صَغِيرٍ مُتَكَبِّرٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ أَنَّ الفَقْرَ وَسُوءَ الأَحْوَالِ خَيْرٌ مِنَ اللُّجُوءِ إِلَى اللِّئَامِ مِنَ النَّاسِ. إِنَّ الكِبْرَ سَيِّئٌ كُلّه، لَكِنَّ السُّوءَ فِيهِ يَتَضَاعَفُ إِذَا جَاءَ مِنْ إِنْسَانٍ صَغِيرٍ بِقَدْرِهِ وَهِمَّتِهِ، مِمَّا يَجْعَلُ الشَّاعِرَ يَعْتَبِرُ الضُّرَّ - وَهُوَ الفَقْرُ وَسُوءُ الحَالِ - أَقَلَّ سُوءًا، وَأَقْبَلَ وَضْعاً مِنْ مَنْظَرِ تَكَبُّرِ الصَّغِيرِ.

وفي الباب، قال برمة النحوي:

أَرَى الفَقْرَ فِي عَيْنِي غِنًى مِنْ جَمَالِهِ * إِذَا شِئْتُ أَنْ أَلْقَى امْرَأً شَابَهُ كِبْرُ

ومثله لأبي محمد الحسن بن تَختاخ الخراساني، في قوله:

وَلَيسَ يَضُرُّنِي ضَعْفِي وَفَقْرِي * إِذَا أَنْفَقْتُ مَالِـي فِـي المَعَالِي

رَأَيْتُ العَـارَ فِـي بُـخْـلٍ وَكِـبْـرٍ * وَلَـسْـتُ أَرَاهُ فِـي فَـقْرِ الرِجَالِ

ومن أقوال الحكماء، قول أرسطو: «أعظمُ مَا عَلَى النَّفْسِ إِعْظَامُ ذَوِي الدَّنَاءَةِ».

(95) قَوَاصِدَ كَافُورٍ تَوَارِكَ غَيْرِهِ * ومَنْ قَصَدَ البَحْرَ اسْتَقَلَّ السَّوَاقِيَا

وكما أن بعضَ الأبيات تذهب أمثالاً سائرَةً، وهو ما سبق بيانه، فَإِنَّ بعضَ أعجازِ الأبيات يذهب مثلاً سائراً وحدَه، وليس بيتُ الشعر كُلُّه. وعَجُزُ هذا البيت، أي النصف الثاني مِنهُ، ذَهَبَ مَثَلاً سَائِراً، وهو قول أبي الطيب المتنبي:

وَمَنْ قَصَدَ البَحْرَ اسْتَقَلَّ السَّوَاقِيَا

وذكر الثعالبي في (يتيمة الدهر) هذا العَجُزَ ضمن محاسن المتنبي، التي منها: (إرسال المَثَلِ في أنصَافِ الأبياتِ).

والسواقي: جمع ساقية، وهي كل ما تفرَّعَ من غيره ممَّا هو أكبر منه؛ تفرُّع القليل من الكثير. واسْتَقَلَّ: بمعنى قَلَّلَ من شَأْنِ وقيمة ما اسْتَقَلَّهُ. يقول: إن كلَّ قاصدي كافور تاركون لغيرِه من الملوك، وعِلَّة ذلكَ أن الذي يكون مقصدُه البحرَ لا يعتدُّ بالسواقي، فشَبَّه كافور بالبحر وغيرَه من الملوك بالسواقي، مدحاً في كافور، وتعظيماً لشأنه، وتفضيلاً له على غيره من الحُكام والأمراء.

وكافور: هو الإِخْشِيدِي (292 – 357 هـ = 905 – 968 م)، أبو المِسك، الأمير المشهور حاكمُ مصر آنذاك، وكان عَبْداً حَبَشِيّاً مَمْلُوْكاً، اشتراهُ الإخشيدي ملك مِصر سنة 312 هـ، فَنُسِبَ إِلَيهِ، وَأَعتَقَهُ، فَتَرَقَّى عنده. وصَعَدَت هِمَّةُ كافور بِهِ حَتَّى مَلَكَ مِصرَ سنة 355هـ. وكَانَ فَطِنًا ذَكِيّاً حَسَنَ السِيَاسَةِ. وفيه قال المتنبي بيت القصيد.

وكان المتنبي مَدَحَ كافور لَمَّا وَعَدَه ُبتوليته إمارَةً ما، فَمَاطَل كافور وَلَمْ يَفِ بِوَعْدِهِ، فَفَرَّ المتنبي من مصر التي كان هاجر إليها تلبية لدعوة كافور. وبعد خروجه من مصر كتب المتنبي قصائد يهجو بها كافور.

قِيلَ إِنَّ بَيْتَ المُتَنَبِّي هُوَ مِن قَوْلِ البُحْتُرِيِّ:

وَلَمْ أَرْضَ في رَنْقِ الصَّرَى لِيَ مَوْرِداً * فَحَاوَلْتُ وِرْدَ النِّيلِ عِنْدَ احْتِفَالِهِ

والصَّرَى: نهرٌ صَغِيْرٌ.

(96) إِذَا الجُودُ لَمْ يُرْزَقْ خَلَاصاً مِنَ الأَذَى * فَلَا الحَمْدُ مَكْسُوباً وَلَا المَالُ بَاقِيَا

يقولُ: لا إِحسَانَ في العَطَاءِ مَعَ المَنِّ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الجُودُ بِلَا مَنٍّ، فَإِنَّ المَالَ يَذهَبُ بِالعَطَاءِ، وَيَمْنَعُ المَنُّ الحَمْدَ والثَنَاءَ، فَالمَنُّ وَهُوَ مَا عَنَاهُ بـ (الأَذَى) مَظِنَّةُ الذَّمِ، وعَدَم تَحَقُقِ الأَجْرِ وَالثَّوَابِ.

وَذِكرُ (الأَذَى) في البَيْتِ، إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ مِنَ المُتَنَبِّي إِلَى قَولِ اللَهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى).

المَنُّ: تَعْدَادُ النِّعْمَةِ عَلَى المُنْعَمِ عَلَيْهِ. الأَذَى: مَا يُؤْذِي المُعْطَى بِأَيِّ شَكْلٍ، مِثلَ تَعْيِيرِهِ بِالحَاجَةِ. والمَنُّ والأَذَى مُبطِلَانِ لِلصَدَقَةِ، مُذهِبَانِ لِمَعْنَى الإِحْسَانِ.

قَالَ الإمام القرطبي: « وَلَا يَكُونُ المَنُّ غَالِباً إِلَّا مِنَ البُخْلِ، وَالكِبْرِ، وَالعُجْبِ، فَالبَخِيلُ تَعْظُمُ فِي نَفْسِهِ العَطِيَّةُ، وَإِنْ كَانَتْ حَقِيرَةً فِي نَفْسِهَا، وَالعُجْبُ يَحْمِلُهُ عَلَى النَّظَرِ لِنَفْسِهِ بِعَيْنِ العَظَمَةِ، وَأَنَّهُ مُنْعِمٌ بِمَالِهِ عَلَى المُعْطَى، وَالكِبْرُ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَحْقِرَ المُعْطَى لَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ فَاضِلًا، وَمُوجِبُ ذَلِكَ كُلِّهِ، الجَهْلُ وَنِسْيَانُ مِنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ نَظَرَ مَصِيرَهُ لَعَلِمَ أَنَّ المِنَّةَ لِلْآخِذِ، لِمَا يُزِيلُ عَنِ المُعْطِي مِنْ إِثْمِ المَنْعِ وَذَمِّ المَانِعِ، وَلِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ الجَزِيلِ وَالثَّنَاءِ الجَمِيلِ». وذَمَّ المتنبي العَطَاءَ بِمَنٍّ، وَمَدَحَ ضِدَّهُ، في أَكْثَر مِن بَيْتٍ مِن شِعْرِهِ، كَقَولِهِ لِمَمْدُوحِهِ:

أَنْتَ الجَوَادُ بِلَا مَنٍّ وَلَا كَدَرٍ * وَلَا مِطَالٍ وَلَا وَعْدٍ وَلَا مَذَلِ