ربما تسبب الندرة في عالم محدود الموارد حالةً من التنافس تصل إلى حد الصراع، لتلبية الحاجات والأهداف، وكلما ندرت العناصر الحيوية لتطوير الصناعات الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة، فإن الخيارات المحدودة تجعلنا نذهب يميناً ويساراً وراء هذه العناصر، لا سيما إذا كانت نواة لصناعات استراتيجية، مثل الهواتف الذكية وأشباه الموصلات والمركبات الكهربائية والمنتجات الطبية والبطاريات القابلة لإعادة الشحن والصناعة العسكرية.
وبالنظر إلى العناصر الأرضية النادرة (Rare Earth Elements)، وهي معادن (تتضمن 17 عنصراً كيميائياً) تُستخرج من قشرة الأرض، يختلف توزيعها على الكرة الأرضية، لكنها صعبة الاستخراج، لاختلاطها مع معادن أخرى، وتعقيدات فصلها وتكريرها، غير أنها من الموارد الاستراتيجية التي تسعى الدول، خصوصاً المتقدمة صناعياً، إلى تأمين حصتها منها والحفاظ على إمدادات مستدامة لا تعطل الطموحات الصناعية والتكنولوجية.
وقد استثمرت الصين في تكنولوجيا استخراج وفصل وتكرير المعادن النادرة منذ بداية تسعينيات القرن العشرين، لإدراكها أهميتها في الصناعات الحديثة والذكية، واليوم تهيمن على نحو 90% من الإنتاج العالمي من هذه المعادن، وعلى نحو نصف الاحتياطي العالمي، مقابل 12% فقط للولايات المتحدة، في سوق يُقدر بنحو 12.4 مليار دولار في عام 2024 وترجح مجموعة «آي إم إيه آر سي» أن يبلغ 37.1 مليار دولار بحلول 2033.
ومع ندرة العرض، سيزداد الطلب على المعادن النادرة (منها الليثيوم والغرافيت واليورانيوم) بنسبة 500% بحلول 2050، وفق تقدير البنك الدولي، ولهذا تتسابق الاقتصادات الصناعية في البحث عن المعادن النادرة ليس فقط على سطح الأرض، وإنما تخطط لاستكشافها في أعماق البحار وعلى سطح القمر، لا سيما أن الاحتياطات في العالم ربما لا تتجاوز 90 مليون طن، تتصدرها الصين والبرازيل والهند والولايات المتحدة وغرينلاند.
وبالرغم من توفر العناصر الأرضية النادرة في الشرق الأوسط وأفريقيا، وعدد من الدول العربية (الجزائر ومصر والسعودية والأردن)، فإنها لم تستغل تجارياً بالشكل الأمثل، لصعوبات الاستخراج والتكرير، وربما تنتظر استثمارات أجنبية من دول ذات خبرات تكنولوجية متقدمة في هذا المجال، وقد تكون القارة السمراء والشرق الأوسط هدفاً استثمارياً لأكبر الفاعلين في الاقتصاد العالمي، مع رغبتهم في تأمين إمدادات المواد الخام الاستراتيجية.
ولهذا، ليس من الغريب طلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بأن تزود أوكرانيا (التي لديها 5% من احتياطيات المعادن العالمية) الولايات المتحدة بالمعادن الأرضية النادرة، مقابل الدعم المالي العسكري، والرغبة الأميركية في صفقة مع أوكرانيا تستحوذ بموجبها على 50% من المعادن النادرة لديها، وكذلك العرض الأميركي لشراء جزيرة «غرينلاند» التابعة للدانمارك، المعروفة بوفرة المعادن النادرة في أراضيها، وإن كانت هناك جوانب أخرى في الرؤية الأميركية تتعلق بالأمن القومي.
وإزاء هذه الصورة، فإن المعادن النادرة لم تعد ذات أهمية اقتصادية ولا محركاً وداعماً لتطور الصناعات المدنية والعسكرية والتكنولوجيا المتقدمة فحسب، بل أصبحت أيضاً عاملاً من عوامل التوازنات الجيوسياسية، وأداة اقتصادية في الحرب والسلام، والصراع على المستقبل، فامتلاك المعادن النادرة يحمي الصناعة من التحكم في التوريد، بالسماح والمنع، وتجنب تداعيات فقدان موارد إنتاج الصناعات الحديثة والمتطورة، وبالتالي العجز عن الريادة التكنولوجية.
في وقت يتجه فيه العالم إلى الاقتصاد المعرفي، يبرز الصراع على الموارد الطبيعية، وفي المقدمة منها المعادن النادرة، ولم لا وهي نقطة ارتكاز الاقتصاد المعرفي، غير أن دولاً بعينها ستسبق الجميع في هذا النوع من الاقتصاد، لامتلاكها الموارد النادرة، والأدوات الدبلوماسية في السياسة الدولية التي تمكنها من تنويع سلاسل الإمداد والتوريد الخاصة بالمعادن النادرة، واستدامة التنمية الاقتصادية، وتشكيل المستقبل الصناعي والتكنولوجي للعالم.
*باحث مركز تريندز للبحوث والاستشارات