(91) إِذَا طَلَبُوا جَدْوَاكَ أُعْطُوا وَحُكِّمُوا * وَإِنْ طَلَبُوا الفَضْلَ الَّذِي فِيكَ خُيِّبُوا
(جَدْوَاكَ): أُعْطِيَتُكَ.
(حُكِّمُوا): أَيْ مَنَحْتَهُمُ الحُكْمَ فِي مَا يَشَاؤُونَ وَيَبْتَغُونَ وَيَطْلُبُونَ مِنَ العَطَايَا.
قَالَ ابْنُ جِنِّي شَارِحاً بَيْتَ القَصِيدِ: «أَي: إِذَا طَلَبُوا عَطَاءَكَ، أَعْطَيْتَهُمْ، وَإِنْ رَامُوا فَضْلَكَ مَنَعْتَهُمْ مِنْهُ».
وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ فُورَّجَة، قَائِلاً: «كَيْفَ يَقْدِرُ الإِنْسَانُ أَنْ يَمْنَعَ آخَرَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي مِثْلِ فَضْلِهِ؟! وَإِنَّمَا اللَّهُ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ أَتَى بِهِ المُتَنَبِّي عَلَى لَفْظِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَأَحْسَنَ».
المعنى:
إِنَّهُم إِنْ طَلَبُوا فَضْلَكَ لَمْ يُدْرِكُوهُ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ خَصَّكَ اللَّهُ بِهِ، فَلَا يُحْصَلُ عَلَيْهِ بِالطَّلَبِ، وَلَا بِالأُعْطِيَةِ.
(92) إِذَا قِيلَ رِفْقًا قَالَ لِلْحِلْمِ مَوضِعٌ * وحِلْمُ الفَتَى فِي غَيرِ مَوضِعِهِ جَهْلُ
عِنْدَمَا يَدْعُو القَوْمُ إِلَى الرِّفْقِ وَالتَّأَنِّي وَالحِلْمِ، يَقُولُ لَهُمْ بِحِكْمَتِهِ: لَا يَنْبَغِي للحِلْمِ أن يُطْلَبَ إِلَّا فِي المَوْضِعٍ الذي يَحْسُنُ أنْ يكون فِيهِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ يُسِيءُ أَكْثَرَ مِمَّا يُحْسِنُ، بَلِ اعْتَبَرَ مِنَ الجَهْلِ الحِلْمَ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ.
وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ المُتَنَبِّي فِي بَيْتِهِ الشَّهِيرِ:
وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوضِعِ السَّيفِ بِالعُلَا * مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيفِ فِي مَوضِعِ النَّدَى
إِذَا كَانَ الحِلْمُ مَحْمُوداً، فَغَيْرُ المَحْمُودِ أَنْ يَكُونَ حيثُ لَا يَجْدُرُ التَّحَلِّي بِهِ.
وفي البَابِ نَفسِهِ بَيْتُ الفِنْدِ الزِّمَّانِيِّ:
وبَـعْـضُ الحِـلْمِ عِـنْـدَ الجَـهْـ * ـــلِ بِـــالـــذِّلَّـــةِ إِذْعَــانُ
وَقَولُ سَالِمِ بن وابِصَةَ:
إِنَّ مِنَ الحِلْمِ ذُلّاً أَنْتَ عَارِفُهُ * وَالحِلْمُ عَنْ قُدْرَةٍ فَضْلٌ مِنَ الكَرَمِ
وَقَولُ الخُرَيمِيِّ:
أَرَى الحِلمَ في بَعْضِ المَوَاطِنِ ذِلَّةً * وَفي بَعْضِهَا عِزّاً يُسَوِّدُ صَاحِبَه
وَقَولُ الأعْوَرِ الشَّنِّيِّ:
خُذِ العَفْوَ وَاغْفِرْ أَيُّهَا المَرْءُ إِنَّنِي * أَرَى الحِلْمَ مَا لَمْ تَخْشَ مَنقَصَةً غُنْمَا
وَهُوَ كَثِيرٌ في شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
مِنَ الحِلْمِ أَنْ تَسْتَعْمِلَ الجَهْلَ دُونَهُ
وقوله:
كُلُّ حِلْمٍ أَتَى بِغَيرِ اقْتِدَارٍ
وقوله:
إِنِّي أُصَاحِبُ حِلْمِي وَهْوَ بِي كَرَمٌ
(93) وَلَو جَازَ أنْ يَحْوُوا عُلَاكَ وَهَبْتَهَا * وَلَكِنْ مِنَ الأَشْيَاءِ مَا لَيسَ يُوهَبُ
يَقُولُ: إِنَّ عُلُوَّكَ وَسُمُوَّ طِبَاعِكَ، لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يُعْطَى وَيُمنَحَ لَأَعْطَيْتَهُ وَمَنَحْتَهُ، فَكَرَمُكَ يَجْعَلُكَ تَمْنَحُ كُلَّ شَيءٍ بِسَخَاءٍ، وَتُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الفَقْرَ، غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ أُمُوراً لَا تُعْطَى وَلَا تُمْنَحُ وَلَا تُوهَبُ، وَمِنْهَا عُلُوُّكَ وَرِفْعَتُكَ، فَهِيَ مُكْتَسَبَاتٌ حَقَّقْتَهَا خِلَالَ حَيَاتِكَ، وَرَاكَمْتَهَا بِمُمَارَسَتِكَ جَمِيلَ خِصَالِكَ، وَإِتْيَانِكَ جَلِيلَ سَجَايَاكَ.
وَلَا بُدَّ لِمَنْ يَرْجُو الحُصُولَ عَلَى شَيْءٍ مِثْلِهَا، أَنْ يَسِيرَ عَلَى خُطَاكَ، وَيَقْتَفِي أَثَرَكَ، وَيَبْذُلَ مِثْلَ بَذْلِكَ، وَيَصْبِرَ كَمَا صَبَرْتَ، وَيَتَجَلَّدَ وَيُعَانِيَ مِثْلَمَا عَانَيْتَ فِي حَيَاتِكَ، وَوَاجَهْتَ مِنْ شَدَائِدَ وَصِعَابٍ.
وَهُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ:
وانْفَحْ لَنَا مِنْ طِيْبِ خِيمِكَ نَفْحَةً * إِنْ كَانَتِ الأَخْلَاقُ مِمَّا تُوهَبُ
وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِ جَابِرِ بْنِ جَنَابٍ، أَو ابنِ حُبابٍ أَو ابنِ خَبَّابٍ، أَو جَابِرِ بنِ حَيَّان:
وَإِنْ يَقْتَسِمْ مَالِي بَنِيَّ وَنِسْوَتِي * فَلَنْ يَقْسِمُوا خُلْقِي الكَرِيمَ وَلَا فِعْلِي