(88) وقَدْ يَتَزَيَّا بِالهَوى غَيرُ أَهْلِهِ * ويَسْتَصْحِبُ الإِنْسَانُ مَنْ لَا يُلََائِمُهْ

(يَتَزَيَّا): يَرْتَدِي زِيّاً: أَي لِبَاساً لَيْسَ لَهُ، تَصَنُّعاً وَتَكَلُّفاً وَادِّعَاءً. وَالزِّيُّ: الهَيْئَةُ وَاللِّبَاسُ وَالمَنْظَرُ. وَاسْتِخْدَامُ (التَّزَيِّي) لَيْسَ حَقِيقِيّاً هُنَا، بَلْ مَجَازِيٌّ. فَالتِزَامُ الْمَرْءِ سُلُوكاً مُعَيَّناً يَجْعَلُهُ يُوصَفُ بِأَنَّهُ تَزَيَّا بِزِيِّ هَذَا الطَّبْعِ وَالمَسْلَكِ.

وَمِنْ الفعل «لَبِسَ» اشْتُقَّ وَصْفُ كُلِّ مَا يُلَازِمُ الْمَرْءَ كَمَا تُلَازِمُهُ ثِيَابُهُ، فَصَارَ لِبَاساً. لِبَاسُ الرَّجُلِ: امْرَأَتُهُ، وَالزَّوْجُ لِبَاسُ زَوْجَتِهِ، يَقُولُ تَعَالَى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ)، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتْرٌ لِلْآخَرِ وَسَكَنٌ لَهُ. وَاللَّهُ هُوَ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً)، فَهُوَ سَكَنٌ لَكُمْ.

يَقُولُ بَيْهَسُ الفَزَارِيُّ، المُلقَّبُ بِـ (نَعَامَة) لِطُولِهِ:

اِلْبَسْ لِكُلِّ حَالَةٍ لَبُوسَهَا * إِمَّا نَعِيمَهَا وَإِمَّا بُوسَهَا

المعنى: يَتَحَدَّثُ الشَّاعِرُ عَمَّنْ يَتَزَيَّا بِالْهَوَى وَالعِشْقِ، وَالهَوَى لَيْسَ زِيّاً لَهُ، وإنما يفعل ذلك مِنْ بَابِ الادِّعَاءِ وَالتَّصَنُّعِ وَالتَّكَلُّفِ، وَلَيْسَ لِأَنَّ الهَوَى طَرَقَ بَابَهُ، بَلْ لِأَجْلِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فُلَاناً عَاشِقٌ مِنْ أَهْلِ الهَوَى! وَقَوْلُهُ (يَسْتَصْحِبُ): اسْتَصْحَبَهُ: دَعَاهُ إِلَى الصُّحْبَةِ وَلَازَمَهُ. وَكُلُّ مَا لَازَمَ شَيْئًا فَقَدِ اسْتَصْحَبَهُ. يَقُولُ: قَدْ يُصَاحِبُ الْمَرْءُ مَنْ لَا يُنَاسِبُهُ، فَلَا يَكُونُ مُلَائِماً لِعَادَاتِهِ وَطِبَاعِهِ وَلَا يُوَافِقُ آرَاءَهُ وَأَفْكَارَهُ، وهذا شبيهٌ بالإِنْسَانِ يَتَكَلَّفُ الشَّيْءَ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ. وَالْبَيْتُ يَفْتَحُ الذِّهْنَ لِلتَّفَكُّرِ بِكَثِيرٍ مِمَّنْ يُنَاقِضُ ظَاهِرُهُ باطنَه!

(89) وَأَظْلَمُ أَهْلِ الظُّلْمِ مَنْ بَاتَ حَاسِداً * لِمَنْ بَاتَ فِي نَعْمَائِهِ يَتَقَلَّبُ

لَيْسَ غَرِيباً أَنْ يَصِمَ المُتَنَبِّي الحَاسِدَ بِأَنَّهُ أَشَدُّ الظَّالِمِينَ سُوءاً، فَالحَسَدُ دَاءٌ يُصِيبُ روحَ الحاسدِ قَبْلَ أَنْ يُؤذِيَ الآخَرِينَ. لَكِنَّهُ هُنَا يَتَحَدَّثُ عَنْ حَاسِدٍ مِنْ نَوْعٍ مُخْتَلِفٍ، إنَّه شَخْصٌ يَحْسِدُ مَنْ بِفَضْلِهِ يَعِيشُ، وَمَنْ بِيَدِهِ رِزْقُهُ! أَيُّ قَاعٍ مِنَ الانْحِطَاطِ هَذَا؟ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ نِعْمَةِ شَخْصٍ ثُمَّ يَحْسِدَهُ عَلَيْهَا؟ أَنْ يَنَامَ فِي دِفْءِ خَيْرِهِ ثُمَّ يَلْعَنَهُ فِي سِرِّهِ؟ المُتَنَبِّي هُنَا لَا يُبَالِغُ، بَلْ يَرْسُمُ صُورَةً نَجِدُهَا كَثِيراً حَوْلَنَا، وَفِي حَيَاتِنَا!

وَبَيْنَمَا يَصِفُ المُتَنَبِّي هَذَا النَّمُوذَجَ البئيسَ، يَذْكُرُ فِي بَيْتٍ آخَرَ صُورَةً مُغَايِرَةً تَمَاماً، فَيَقُولُ:

 وَقَيَّدْتُ نَفْسِي فِي ذَرَاكَ مَحَبَّةً * وَمَنْ وَجَدَ الإِحْسَانَ قَيْداً تَقَيَّدَا

إِنَّهُ يُقَيِّدُ نَفْسَهُ فِي ظِلَالِ المُحْسِنِ مَحَبَّةً، وَتَأمَّلْ كَيْفَ قَيَّدَ نَفْسَهُ فِي ظِلِّ المُحْسِنِ لا فِي المُحْسِنِ نَفْسِه، لأنه يَرَى وُجُوبَ القَيْدِ بِمَا يَتَّصِلُ بِالمُحْسِنِ بِأَيِّ صِلَةٍ، وَلَوْ كَانَت الفَيْءَ وَالظِّلَّ!

وَالفَضْلُ يُقَيِّدُ الإِنْسَانَ كَمَا يُقَيِّدُهُ الإحْسَانُ، وَلَكَ أَيُّهَا القارئُ الكَرِيمُ أَنْ تَتَصَوَّرَ البَوْنَ الشَّاسِعَ بَيْنَ الشَّخْصِيَّتَيْنِ! مُفَارَقَةٌ مُذْهِلَةٌ يَضَعُهَا المُتَنَبِّي أَمَامَنَا: الحَسَدُ الَّذِي يُحَرِّرُ الشَّرَّ فِي النَّفْسِ، مُقَابِلَ الإِحْسَانِ الَّذِي يُقَيِّدُ القَلْبَ بِالوَفَاءِ. تُرَى، فِي أي قَيْدٍ نَضَعُ أَنْفُسَنَا؟ حَقًّا، إِنَّ النَّاسَ عِلْيَةٌ وَسَفَلَةٌ، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ...

(90) أَبَى خُلُقُ الدُّنْيَا حَبِيباً تُدِيمُهُ * فَمَا طَلَبِي مِنْهَا حَبِيباً تَرُدُّهُ

(الخُلُقُ): الطَّبِيعَةُ وَالعَادَةُ. يَقُولُ المُتَنَبِّي: إِنَّ خُلُقَ الدُّنْيَا، وَيَقْصِدُ بِخُلُقِهَا: عَادَتَهَا وَطَبِيعَتَهَا فِي تَصْرِيفِ الْأَحْوَالِ وَالْأَحْدَاثِ، رَفَضَ بل أَبَى أَنْ تُبْقِيَ حَبِيباً وَتُدِيمَ مَحَبَّتَهُ، فَإِذَا كَانَ هَذَا طَبْعُ الدُّنْيَا، فَهَلْ سَأَطْلُبُ مِنْهَا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ حَبِيباً ذَاهِباً؟!

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَقْصِدُ بِـ (تُدِيمُهُ): أَنْ تُدِيمَ بَقَاءَهُ فِي الدُّنْيَا، أَوْ أَنْ تُدِيمَ مَحَبَّتَهُ وَوَصْلَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ (تَرُدُّهُ): يُحْتَمَلُ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ تَرُدُّهُ إِلَى الْحَيَاةِ، أَوْ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَى الْوَصْلِ بَعْدَ صَدِّهِ وَإِعْرَاضِهِ. قال أَبُو الفَتْحِ عُثْمَانُ بْنُ جِنِّي، فِي شَرْحِ البَيْتِ: «إِذَا كَانَ مَا فِي يَدِكَ لَا يَبْقَى عَلَيْكَ، فَمَا قَدْ تَقَضَّى أَبْعَدُ مِنَ الوُجُودِ!». وَفِي (مُعْجِزِ أَحْمَدَ): «كَيْفَ تَرُدُّ عَلَيْكَ الْأَيَّامُ حَبِيبَكَ الذِي فَارَقَكَ؟ وَهِيَ لَا تَتْرُكُ عَلَيْكَ حَبِيبَكَ الَّذِي هُوَ مَعَكَ!».