‏يمكن تعريف الكوميديا السوداء بأنها ‏حالة من التراجيديا الساخرة لا يجيدها إلا قلة من البشر الموهوبين الذين يمتلكون فن البهلوة والتغلب على شيء يؤلمك لكنه في الوقت نفسه يضحكك، مثلما يقولون (شر البلية ما يضحك)! وهذا أسلوب من نسق النصوص الساخرة المضحك المبكي.

إنه السهل الممتنع، ولا يجيد هذا الأسلوب إلا شخص موهوب سريع البديهة لماح في النقل يرد في وقت حرج، ذكي سريع الإسقاط. وعلى هذا النحو، تقول الرواية: كان أحدُ الأساتذة الجامعيين يلبسُ ساعة نسائية بيده اليسرى، وكان الطلاب يتندرون ويتنمرون عليه في ما بينهم، ‏ودفع أحدهم الفضول، وتجرأ وسأل الأستاذ: لِمَ تلبسُ ساعةً نسائية؟ فقال له: هذه ساعة ابنتي المتوفاة! ‏ فأسقط بيد الطالب وندم على سؤاله! ‏

في كُلِّ إنسانٍ وجع لو كشفه للآخرين لبكوا عليه أكثر منه! ‏ولكننا نجامل ونكظم الغيظ ونتصبَّر ونحتسب، ‏ لأن نظرات الشفقة في عيون الآخرين موجعة جداً! ‏ ‏هذه الحياة معركة قوية صعبة طاحنة لا ترحم أحداً، وعجلة الحياة تسير بسرعة، وتدعس من يعترضها من دون استئذان. فلا تخدعنَّكَ المجاملات والمظاهر البراقة.

أحيانا ‏خلف الابتسامات العريضة التي تراها، غصات كثيرة في القلب يخفيها الناس عن بعضهم لكي لا يجرحون مشاعرهم! ‏ووراء الضحكات دموع حارة، لو شاهدتها لقلتَ لنفسك، ‏كيف يضحكُ هذا الإنسان المعذب، الذي كاد أن تتجمد عيونه من كثرة ما بكى! ‏ ‏الناس كالجبال الصامتة، تتحمل ما عليها من ثقل همومها وصدماتها، ليس في الصلابة، وإنما في الجزء المخفيِّ منها طبعاً.

و‏يقول علماء الجيولوجيا إن الذي يظهر من الجبل هو نصفه، ‏هناك نصف آخر مدفون في الأعماق وهكذا نحن!‏ما نخفيه أكثر مما نظهره، وظروفنا ليست من الأشياء التي نستطيع أكلها، وإنما من الأشياء التي تأكلنا ببطء.

‏ ‏ في كل إنسانٍ وجع مهما أنكره لكي لا يفضحه ولا ينكسر وتشمت به الناس، وفي كل قلبٍ غصَّة مهما أخفاها تظهر بلحظة حرجة أو تصرف لا إرادي! ‏لا تخدعنَّكَ المظاهرُ والمشاهد البراقة والزخارف المنمقة، الأشياء ليست كما تبدو، السكين نظيف ومرهف ويلمع وناعم الملس، لكنه يستطيع قطع يدك بلحظة . ‏الهادئ الذي تحسده على اتزانه وصبره وقدرته على التحمل وعلى نفسه، ‏ قد يكون في قلبه ألم ونار لا يعلمها إلا الله سبحانه. ‏والذي لا يخرج منه السراب والدخان، لا يعني أنه لا يحترق من الداخل ! ‏لا العاصي مرتاح بمعصيته لأنه يؤنبه ضميره وتجلده ذاته. ‏

‏ قصة قرأتها وتداولها الناس عن رجلٍ دخل يوماً إلى عيادة طبيب، يشكو له وجعاً في جسمه وعظامه وانطفاءً في روحه، ‏فأجرى له الطبيب فحوصات وأشعة وتحاليل لازمة، فتبين له أن المريض لا يشكو من شيء مقلق! فقال له الطبيب: إن مشكلتكَ تبدو نفسية بحتة، ليس لها علاقة بما تشكو منه، ‏حاول أن تروّح وترفه عن نفسك، ‏اقرأْ وسافرْ وتمتع، تعرَّف على أصدقاء جُدد! وعندي نصيحة لك، هناك ‏ في المدينة مهرج متمكن ساخر بارع اسمه (كارلينا)، ‏يجعل الناس ينسون همومهم ومشاكلهم لكثرة ما يضحكهم، أنصحك بمشاهدته والذهاب إليه! فنظر المريضُ إلى الطبيب بعينين دامعتين وحسرة بالقلب وقال له يا سيدي: أنا (كارلينا) أيها الطبيب الذكي! في عام 1926م، ذهب شخص مريض إلى طبيب نفسي استشاري مشهور، شاكياً من قلق وتوتر وكآبة لا يعرف سبب مصدرها، مما تسبب في حرمانه من النوم والاضطراب النفسي، وبعد فحصه كاملاً، نصحه الطبيب المعالج عليك أن تقرأ القصص الساخرة الفكاهية للكاتب المبدع (ميخائيل زو شينيكو)، وسوف ينصرف عنك الاكتئاب! ونظر المريض إلى الطبيب، بتنهد وحسرة وألم وقال يا دكتور..أنا «ميخائيل زوشينيكوا»!

*كاتب سعودي