(81) وكُلُّ امْرِئٍ يُولِي الجَمِيلَ مُحَبَّبٌ * وكُلُّ مَكَانٍ يُنْبِتُ العِزَّ طَيِّبُ
(يُولِي الجَمِيلَ): أي يَفعَلُ الجميلَ ويُقَدِّمُه ويُهدِيه. (يُنْبِتُ العِزَّ): العِزّ هو: القُوَّةُ والشِّدَّةُ والغَلَبَةُ، وهو ضِدُّ الذُّلِّ، كما يُطلَق على الرِّفْعَةِ وَالِامْتِنَاعِ. واستعمال (يُنْبِتُ) هنا مَجازِيٌّ، حيث شُبِّه العِزُّ بالنباتِ الذي يُزرَعُ ويَنمُو، فكأنَّ المكانَ الذي يَهيِّئُ أسبَابَ العِزَّةِ، ويَحفَظُها، يُشبهُ التُّربَةَ الخِصبةَ التي تُنْبِتُ الشَّجَرَ القَوِيَّ.
والمعنى: الإنسان الذي يُحسِنُ إلى غيرِهِ ويفعلُ الجميلَ محبوبٌ بين الناسِ، إذ تُوجِبُ أفعالُهُ الحَسَنةُ مَحَبَّةَ الآخرينَ له. وكما أنَّ الإحسانَ يُكسِبُ الإنسانَ المَحبَّةَ، فإنَّ المكانَ الذي يُهَيِّئ بِيئَةً تَصُونُ كَرامةَ الإنسانِ وتَحفَظُ عِزَّتَهُ، يُعَدُّ مَكاناً طَيِّباً تُحمَدُ الإِقَامَةُ فيه.
ونَحوَ مَعْنَى هذا البَيْتِ، قَولُ البُحتُريِّ:
وَأَحَبُّ آفَاقِ البِلادِ إِلى الفَتَى * أَرْضٌ يَنَالُ بِهَا كَرِيمَ المَطْلَبِ
فالمكانُ الذي يُعِينُ الإنسانَ على تحقيقِ مَجدِهِ وعِزِّه، هو أفضَلُ الأَمكنةِ وأَحَبُّها إليه.
(82) وَمَا مَاضِي الشَّبَابِ بِمُسْتَرَدٍّ * وَلَا يَومٌ يَمُرُّ بِمُسْتَعَادِ
اسْتِعَادَةُ الشَّبَابِ مُسْتَحِيلَةٌ، فَالْمَاضِي لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ اسْتِرْدَادَهُ، وَمَا يَذْهَبُ مِنَ الْأَيَّامِ يَذْهَبُ بِلا عَوْدَةٍ، وَالْوَقْتُ يَمُرُّ بِنَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَطْ، لَا إِعَادَةَ لَهَا.
وفي البَابِ كَثِيرٌ من الأبيَاتِ...
قَالَ عَدِيُ بن زَيْدٍ:
أَمْسُكَ أَمْسٌ قَدْ مَضَى فَانْقَضَى * لَيْسَ لِأَمْسٍ قَدْ مَضَى مُرْتَجَعْ
وَقَالَ الحُطَيْئَة:
إِذَا ذَهَبَ الشَّبَابُ فَبَانَ مِنْهُ * فَلَيْسَ لِمَا مَضَى مِنْهُ لِقَاءُ
وَقَالَ أَبُوالعَتَاهِيَةِ:
لَا يُسْتَعَادُ اليَوْمُ إِنْ * وَلَّى وَلَا لِلأَمْسِ رَدُّ
وَقَالَ البُحْتُرِيِّ:
فَهَلْ عُقَبُ الزَّمَانِ يَعُدْنَ يَوْمَـاً * بِـيَـوْمٍ مِـنْ لِـقَـائِـكَ مُسْتَفَادِ
قال ابن وكيع، في (المنصف للسارق والمسروق منه)، بعد أن أورد الأبيات السابقة: «كل هذه المعاني متساوية، وهي إخبار بما لا يُجهَل، ولكنه كالتوجع والتفجع. غيرَ أَنَّ أَبَا الطَّيِّب اختصر الكثير الطويل، في الموجز القليل، وذلك أنه خبَّرَ أن ماضيَ الشباب لا يُسترَدُّ، وأن يوماً يمر غير مستفاد، خبَّرَ عن الشباب والزمان، وأفرد غيره بالإخبار عن الزمان، وإمّا عن اليوم، وكان بيت أَبِي الطَّيِّبِ ينوب عن أبياتهم، فهو أحق به».
(83) أَبْلَغُ مَا يُطْلَبُ النَّجَاحُ بِهِ الـ * ـــطَّبْعُ وَعِنْدَ التَّعَمُّقِ الزَّلَلُ
(الطَّبْعُ وَالطَّبِيعَةُ): الخَلِيقَةُ وَالسَّجِيَّةُ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا الإِنْسَانُ. وَالطِّبَاعُ: كَالطَّبِيعَةِ. قَالَ الأَزْهَرِيُّ: «وَيُجْمَعُ طَبْعُ الإِنْسَانِ طِبَاعاً، وَهُوَ مَا طُبِعَ عَلَيْهِ مِنْ طِبَاعِ الإِنْسَانِ، فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ، وَسُهُولَةِ أَخْلَاقِهِ وَحُزُونَتِهَا، وَعُسْرِهَا وَيُسْرِهَا، وَشِدَّتِهِ وَرَخَاوَتِهِ، وَبُخْلِهِ وَسَخَائِهِ».(لسان العرب).
يُقَدِّمُ المُتَنَبِّي نَصِيحَةً فَحْوَاهَا أَنَّ أَهَمَّ طَرِيقٍ يُسْلَكُ لِلنَّجَاحِ، بِأَنْ يَكُونَ المَرْءُ عَلَى سَجِيَّتِهِ، عَامِلاً بِطَبْعِهِ، بِلا مُبَالَغَةٍ؛ فَالتَّكَلُّفُ يُؤَدِّي بِصَاحِبِهِ إِلَى الخَطَأِ.
الحِرْصُ مَطْلُوبٌ، وَالتَّعَمُّقُ وَالتَّكَلُّفُ مُبَالَغَةٌ، وَالمُبَالَغَةُ خُرُوجٌ عَنِ الطَّبْعِ، وَالتَّكَلُّفُ وَالتَّصَنُّعُ خِلَافُ الطَّبِيعَةِ، وَالعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا سَبَبٌ لِلزَّلَلِ، وَهُوَ الخَطَأُ. كُنْ مُجْتَهِداً، وَاحْرِصْ أَنْ تَكُونَ عَلَى طَبِيعَتِكَ، وَلَا تَتَكَلَّفْ وَلَا تَتَصَنَّعْ فِيمَا تَأْتِي مِنَ الأَمْرِ...