للشّجرة رمزية كبيرة في التّاريخ الإنساني، احتفت بها الأديان والأساطير، ولم يغب عن الفلسفات الاهتمام بها. وللبلدان العريقة في تراثها عناية خاصة بالشجرة، لاعتبارات مادية وعاطفية.
يزخر القرآن الكريم بمعجم غنيّ بأسماء الأشجار، وبالدّلالة المادية والرمزية لبعضها خيراً وشراً، فهي إما محلٌّ للسّكن، كحال شجر النحل، وإما رمزٌ للكلمتين الطيبة والخبيثة، اللّتين مُثّل لهما بالشّجرة الطّيبة والشّجرة الخبيثة، وإما رمزٌ للنبوّة، كحال الشّجرة التي نودي منها موسى عليه السّلام، وإما رمزٌ للعناية والحدب، كحال شجرة اليقطين التي أُنْبتت ليونس عليه السلام وقد لفظه الحوت، وإما رمزٌ للعلم اللّامتناهي كحال الشّجرة وأقلامها المفترضة، وإما رمزٌ لعبادة يُجلّيها سجود النّجم والشّجر، وهو السّجود الذي جعله الكندي خضوعاً لقوانين الطبيعة، وإما رمزٌ لأصل النّور، كما في آية المشكاة، وإما رمزٌ لالتحام الجماعة، كحال الشّجرة التي بويع تحتها الرّسول الأكرم، وإما رمزٌ للشرّ كحال شجرة الزّقوم بصورتها المرعبة، الشجرة التي «طلعها كأنه رؤوس الشياطين»، شجرة القُبح اللامتناهي، وإما رمزٌ للضّعف الإنساني، كحال شجرة أبينا آدم التي كشفت له هشاشته البشرية، وإما رمزٌ للمنّة الإلهية وتنبيهٌ لاجتماع الأضداد وخروج بعضها عن بعض، كحال الشّجر الأخضر الذي تنقدح منه النّار، فضلاً عن أنواع الأشجار الحقيقية التي تتفاضل قيمتها في القرآن الكريم من مثل السّدر، وهو شجر كثير الشوك، والأَثْل وهو شجر لا ثمار له، وغيرها من الأشجار.
وقد تردّدت معانٍ رمزية أخرى للشّجرة في أحاديث نبوية، وتكفي الإشارة هنا إلى مثال الدّنيا التي شبّهها عليه السّلام بشجرة يستظلّ تحتها الإنسان ثم يغادرها. دون أن ننسى رمزية النّخلة، الشجرة العجيبة التي شبَّه الرسولُ الكريم المؤمنَ بها، لدلالاتها العميقة الموحية ذات البعد الإنساني.
لم يفت الفلاسفة الاعتناء بالشّجرة مطيّة رمزية لهمومهم العلمية كما نجد عند ديكارت الذي لم يجد مثالاً يُوضّح به أجزاء فلسفته أفضل من الشّجرة، فشبّه الفلسفة بشجرة جذورها الميتافيزيقا وجذعها الفيزياء وأغصانها الميكانيكا والطّب والأخلاق، كما وجدنا ابن الخطيب في «روضة التّعريف بالحبّ الشّريف» لم يجد شيئاً يعبّر به عن الحبّ الإلهي أفضل من مثال الشّجرة، حيث جعل حكاية هذا الحبّ العظيم في كتابه شجرة وأرضاً، أو كما قال «فالشجرة: المحبة، مناسبة وتشبيهاً، وإشارة لما ورد في الكتب المنزلة وتنبيهاً. والأرض: النّفوس التي تغرس فيها. والأغصان: أقسامها التي نستوفيها. والأوراق: حكاياتها التي نحكيها، وأزهارها ثمارها التي نجنيها. والوصول إلى الله تعالى: ثمرتها التي ندّخرها بفضل الله ونقتنيها... شجرة لعمر الله يانعة، وعلى الزعازع متمانعة... ظلّها ظليل والفائز بجناها قليل... وسمَتْ إلى النّجوم. وتنزهت عن أعراض الجسوم والرياح الحُسُوم، وسُقِيت بالعلوم وغُذِّيت بالفهوم».
إنّ هذا المعجم المادي والرّمزي لشخص الشّجرة، العنصر المؤسس للجنّات الوارفة الظلال، يَدلُّ على شرف هذا الكائن النّباتي، الذي هو آية من آيات الله، في حياة الكائنات، دنيا وأخرى. ثم إن ارتباط الإنسان بالشّجر عبر التاريخ ارتباط عميق لقيمة الشّجرة في حياته، فقد عبّر بالأشجار عن أفكاره وأشواقه الروحية، كما أنّه اتّخذها له مسكناً، وكانت مصدر سلاحه وغذائه بتنوع ثمارها وفواكهها، وهي اليوم من مصادر عمارته، وإن أصبح اقتلاعها من جذورها بوحشية يشين علاقته بها.
لكن لا يزال الإنسان يحنُّ إلى ماضيه من خلال الحدب على أشجاره المحلية والعناية بها كما نجد في الإمارات من اعتناء بالأشجار، وبخاصة شجرة القرم، التي هي فضلاً عن منافعها الملموسة في توازن البيئة، شجرة مُحمّلة بالرموز الإنسانية، لتعبيراتها المختلفة عن التّعلق بهذه الأرض المعطاء.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.