رغم وجود دول غنية وأوضاعها الاقتصادية مستقرة، وتعمل ما تستطيعه لمساعدة الدول الفقيرة على تحمل أعباء معضلات التنمية، فإن الدول الغنية لا تستطيع أن تواجه مشاكل العالم الاقتصادية وتمطر كل دولة فقيرة بالموارد إلى ما لا نهاية. الدول الغنية لا زالت قادرة وتستطيع المساعدة، لكن ليس باستطاعتها أن تفعل كل شيء، وعلى الدول الفقيرة أن تساعد ذاتها وأن تنهض بنفسها. العديد من الدول الفقيرة تتوقع ما لا يمكن توقعه من الدول الغنية وتتباكى بأن الدول الغنية لا تقدم لها شيئاً رغم أنها تنتج 75 إلى 80 بالمائة من ثروات العالم.
لكن من الأمور المضللة أن نحكم على قدرة الدول الغنية على مساعدة الدول الأخرى من خلال وفرة اقتصادية حدثت في سنوات فريدة بعد انتهاء الحرب الباردة فمن ناحية واقعية نصيب دول العالم الغنية من المخرجات الاقتصادية العالمية تراجع إلى مستويات ضعيفة لأسباب ومؤثرات شتى رغم أنها لا تزال كافية لكي تشكل صلب ومحور اقتصاد العالم. في الوقت نفسه، فإن الفجوة بين الدول المتقدمة والغنية اقتصادياً وبين الدول النامية أو التي هي في طور النمو تضيق، في حين أن الدول غير المحظوظة أو الفقيرة جداً أو ما تعرف مجازاً بـ Under Class Nations تسير نحو المزيد من عدم القدرة على النهوض.
الأعوام منذ ولوج القرن الحادي والعشرين وحتى الآن هي فعلاً سيئة جداً بالنسبة لدول أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية. لكن حتى في أوساط هذه الدول توجد بعض النقاط المضيئة، فدول من أميركا الجنوبية كالبرازيل والأرجنتين والمكسيك التي عانت طويلاً من الصعاب على صعد اقتصاداتها وكانت في مسارات تراجع خلال عقود هي الآن في طور نهضة اقتصادية وصناعية وتنتج أسواقها أمام العالم، وفي أوج أزمة العالم الاقتصادية تتمتع دول كالبرازيل والأرجنتين والهند الآن بمعدلات نمو اقتصادي جيد. طرحنا بالقول بأن المساعدات لا يمكن لها أن تستمر إلى ما لا نهاية لا يعني بأنها، أياً كانت صيغتها لا تعود بالنفع على الدول المانحة، فالحقيقة هي أن المانحين هم المستفيدون من التنمية الاقتصادية التي تحققها الدول المتلقية، فمع نجاح التنمية فيها تقوم الدول المتلقية باستيراد معظم مستلزماتها الأساسية للتنمية من الدول المانحة. إن الدول الغنية في وضع تنافسي قوي لكي تقابل احتياجات الدول الفقيرة من السلع الرأسمالية والمعدات والخدمات المرتبطة بها.
فمثلاً صادرات الدول الغنية إلى الفقيرة عام 2022 ارتفعت إلى ما لا يلامس التريليون دولار أميركي، وهذه الصادرات تشكل نحو 50 بالمائة من صادرات الدول الغنية إلى مختلف دول العالم فقيرها وغنيها. منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين برزت على الساحة الاقتصادية الدولية مجموعة من الدول التي استطاعت ضمن عملية التنمية الاقتصادية فيها إقامة مجموعة من الصناعات التمويلية الناجحة على أراضيها، هذه الدول تم إطلاق مسمى جديد عليها هو «الأقطار الصناعية الجديدة».
هذه الدول وتلك المحتمل لها أن تصبح أكثر أهمية في التجارة العالمية، وكمواقع جديدة للاستثمارات الأجنبية المباشرة، وهي تشهد تجارب أنجح من النمو مع تبنيها استراتيجيات فعّالة تحركها آليات الأسواق الحرة المفتوحة. وفي حين أن بعض الدول حققت نجاحاً إلا أن الأغلبية بقيت في حالة ركود اقتصادي. وتعود أسباب الركود إلى عوامل عدة منها: ارتفاع أسعار السلع الرأسمالية المستوردة، وارتفاع أسعار الطاقة، وأنواع عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، وانفجار مستويات الديون الخارجية المتراكمة على كواهل هذه الدول بحيث إن العديد منها صارت غير قادرة على دفع أقساط خدمة ديونها، فما بالك بالديون ذاتها.
وخلال الفترة من عام 2011 عندما اشتدت أزمة الديون وعام 2022 تراجعت التدفقات الصافية للموارد «القروض والمنح والاستثمارات الأجنبية المباشرة» إلى الأقطار النامية والفقيرة إلى النصف. وفي أقطار مثقلة بالديون، فإن حجم خدمة الديون القديمة تفوق حالياً حجم المداخيل الجديدة، وبالنسبة للأقطار الفقيرة، صار الإعفاء من الديون القديمة وشطبها كلية مسألة لا مناص منها.
*كاتب إماراتي