شاءت الصدف أن تصبح الدنمارك وبنما عضوين من الأعضاء العشرة غير الدائمين لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهي الهيئة المكلفة بالحفاظ على السلام الدولي. إذ سيتولى الدنماركيون رئاسة المجلس في شهر مارس، بجدول أعمال رفيع المستوى يشدد على «الدفاع عن القانون الدولي» وأشياء أخرى جيدة، بينما سيتولاها البنميون في أغسطس. فما الذي يمكن أن ينحو منحى سيئاً؟
دعوني أعدّد لكم الطرق، فالدنماركيون والبنميون، والدبلوماسيون الآخرون، سيشغلون مقاعدهم إلى جانب إليز ستيفانيك، الناطقة بلسان حركة الـ «ماغا» («اجعلوا أميركا عظيمة من جديد»)، التي سيُرسلها الرئيس دونالد ترامب إلى الأمم المتحدة لتمثيل الولايات المتحدة، التي تُعد أحد الأعضاء الخمسة الدائمين في المجلس الذين يتمتعون بحق النقض. وفي جلسة الاستماع الخاصة بتثبيتها في المنصب، وعدت ستيفانيك بأن تضع أميركا أولاً، وأوضحت مرة أخرى أنها تعتبر الأمم المتحدة إلى حد كبير مستنقعاً معادياً للسامية، يهدر أموال الضرائب الأميركية.
الدنمارك وبنما ستطرحان الكثير من الأسئلة على ستيفانيك، ليس أقلها ما يتعلق بطموحات ترامب المعلنة لشراء غرينلاند أو الاستيلاء عليها من الدنماركيين، و«استعادة» القناة التي بنتها الولايات المتحدة من بنما. وإذا لجأ ترامب إلى الإكراه، كما يبدو، فإن الخطوتين لن تنتهكا القانون الدولي فحسب، وإنما ستشكّلان كذلك استهزاءً بميثاق الأمم المتحدة وبكل ما يمثّله مجلس الأمن.
والواقع أن موقف ترامب من تلك المفاهيم والمؤسسات له جذور عميقة. ففي فترته الرئاسية الأولى، سخر من «العولميين» في الأمم المتحدة وغيرها من الهيئات متعددة الأطراف، التي تهدف إلى إدارة النزاعات وتعزيز التعاون الدولي. وفي فترته الرئاسية الثانية، يبدو عازماً على تغيير النظام الذي بناه ودعمه جميع الرؤساء الأميركيين الذين سبقوه، منذ هاري ترومان وحتى جو بايدن.
في غضون ساعات من أدائه اليمين الدستورية، أصدر ترامب أوامره بسحب الولايات المتحدة من جزأين مهمين من منظومة الأمم المتحدة، وهما منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للحد من التغير المناخي. صحيح أن لكل منهما عيوباً، وكلاهما في حاجة ماسة للإصلاح، لكن بدلاً من العمل على تقويم هاتين المؤسستين، يريد ترامب إضعافهما.
المحكمة الجنائية الدولية، التي يقع مقرها في لاهاي، تعمل بشكل مستقل عن منظومة الأمم المتحدة، لكنها تظل مرتبطة بها على نحو وثيق. وتُعد ثمرةَ جهود قادتها الولايات المتحدة خلال تسعينيات القرن الماضي لإنشاء هيئة قضائية دولية لمحاكمة الأفراد على الفظائع وجرائم الحرب في حال لم تستطع أنظمتهم القانونية الوطنية فعل ذلك أو لم ترغب فيه. لكن بمجرد مباشرة المحكمة عملها في عام 2002، أدارت الولايات المتحدة ظهرَها لها. واللافت هنا أنه حينما يحقّق قضاتها مع خصوم الولايات المتحدة، تميل واشنطن إلى التعاون معها. لكن حينما تستهدف المحكمة الجنائية الدولية الأميركيين أو حلفاءهم، مثل المسؤولين الإسرائيليين على خلفية أعمالهم في قطاع غزة، فإن الولايات المتحدة تطعن في المحكمة.
هذه الازدواجية الأميركية تجاه القانون الدولي تعود إلى أكثر من قرن. فبعد الحرب العالمية الأولى، حلم الرئيس الأميركي وودرو ويلسون بإنشاء عصبة الأمم لحظر كل الحروب وإنهائها. لكن مجلس الشيوخ لم يصادق على فكرة ويلسون، ومن دون الدعم الأميركي، أصبحت العصبة غير ذات أهمية مع اجتياح اليابان وإيطاليا وألمانيا لدول ذات سيادة في ثلاثينيات القرن العشرين. وعلى أنقاض حرب عالمية أخرى، حاولت الولايات المتحدة مجدداً، فاستضافت 51 دولة في سان فرانسيسكو وواشنطن لتأسيس عصبة جديدة ومحسّنة سميت الأمم المتحدة.
وعن قصد، مزجت الأمم المتحدة والعناصر الأخرى لما أصبح يُعرف بالنظام الدولي الليبرالي «القائم على القواعد» بين واقعية القوة الصلبة وعقلانية القوانين والأعراف. وكان من المفهوم داخل العالم الحر أن الولايات المتحدة هي التي تتكفل بهذا النظام باعتبارها المهيمنة الخيّرة (بشكل أساسي). وفي العالم ككل، كان من المفترض أن تقوم القوى العظمى في مجلس الأمن بمنع اندلاع الحروب الكبرى. ولم يكن في هذه الرؤية أي شيء من السذاجة أو الرومانسية: إذ كثيراً ما يقال إن الأمم المتحدة لم توجد لتدخلنا الجنة، وإنما لتنقذنا من الجحيم.
لكن في وقتنا الحاضر، بات الجحيم يبدو مرة أخرى وجهة محتملة. ذلك أن ثلاثة من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن أصبحوا أقل اهتماماً يوماً بعد آخر، كل منهم بطريقته الخاصة. فلروسيا موقفها الخاص وهي تخوض حرب أوكرانيا، وكذلك الصين التي لها علاقات متوترة مع بلدان بحر الصين الجنوبي.
والآن ها هي الولايات المتحدة في عهد ترامب أخذت تعلن مواقفها غير الودية حيال المنظمة الدولية. ففي كثير من أقواله وقراراته، يُظهر ترامب أنه لا يكترث كثيراً للنظام الدولي ومعاييره، وأنه يتفق مع قادة دول عظمى آخرين في الاعتقاد بأن القوة تصنع الحق.
ومن خلال تهديده الدنماركيين والبنميين، وتردده بشأن الأوكرانيين، يبعث ترامب بإشارات تفيد بأنه لا يمانع في تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ، وأنه سيأخذ النصف الغربي من الكرة الأرضية، غير مبالٍ بما يترتب على هذا.
بيد أن الخاسر الأكبر لن يكون أميركا أو الصين، وإنما الناس في البلدان الفقيرة الذين يموتون جراء أمراض كان من الممكن احتواؤها في وقت مبكر، أو دول صغيرة عالقة بين القوى العظمى. ولهذا، يجدر بمبعوث كوبنهاغن أن يثير هذا الموضوع بمجلس الأمن في مارس، وبمبعوث بنما سيتي أن يفعل ذلك مرة أخرى في أغسطس. وشخصياً، أرغب كثيراً في سماع رد ستيفانيك، وبالطبع رد ترامب.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسينج آند سينديكيشن»