ذاكرة المؤسسات ليست مجرد ملفات محفوظة في أدراج مغلقة أو بيانات متراكمة في أنظمة رقمية، بل هي منظومة معرفية متكاملة تستوعب التجارب السابقة، وتوثق النجاحات والإخفاقات، وتُحفظ فيها سياقات اتخاذ القرار المؤسسي. إنها ليست مجرد سجل زمني للأحداث، بل هي الرابط المتين بين قرارات الماضي وتطلعات المستقبل، والخيط الذي يمنع المؤسسات من الوقوع في فخ التكرار والارتجال. وعندما تغيب هذه الذاكرة أو تُهمل، تدخل المؤسسات في دائرة من التخبط الإداري، وتكرار الأخطاء، وهدر الوقت والجهد والموارد، من دون تحقيق نتائج ملموسة أو بناء مستدام على ما تحقق سابقاً.
ويحدث أحياناً في بعض المؤسسات أن يتكرر المشهد نفسه مع كل تغيير إداري: تأتي قيادة جديدة، تُلغَى قرارات سابقة، اتُّخذت بناءً على سياقات دقيقة وظروف واضحة آنذاك، تُعاد صياغة الأهداف، وتُطلَق مشروعات مشابهة لما نُفِّذ سابقاً أو أُجهض من دون توثيق كافٍ يُفسر رحلة القرار من التفكير إلى التنفيذ والأثر. وكأن كل دورة إدارية تبدأ من الصفر، بلا تراكم معرفي أو أرضية صلبة تُبنى عليها خطوات التطوير. وهذا النمط لا يُنتِج إلا المزيد من الهدر، هدر في الوقت، والجهود، والموارد، والثقة المؤسسية، وقد يصل الأمر إلى فقدان البوصلة والاتجاه.
وتُعد «ذاكرة صناعة القرار» أحد أهم أركان الذاكرة المؤسسية، فالقرارات الكبرى ليست مجرد مذكرات عابرة أو توجيهات مكتوبة، بل هي نتاج لسياقات معقدة تشمل تحليل البيانات، ونقاشات مطولة، واستشارات دقيقة، ومبررات منطقية. وحين تُلغى هذه القرارات أو يُعاد النظر فيها من دون الرجوع إلى تلك السياقات، ومن دون استيعاب مبررات اتخاذها أو إلغائها، تتحول المؤسسة إلى كيان فاقد للمرجعية، وعُرضة للتخبط واتخاذ قرارات متسرعة لا تستند إلى تاريخها المؤسسي.
إن ذاكرة المؤسسات ليست ورقاً ونظاماً فقط، بل هي أيضاً أفراد عاشوا تفاصيل القرار، أفراد كانوا جزءاً من السياق، وعرفوا التحديات والفرص والإشكاليات التي واجهت التنفيذ. وهؤلاء الأفراد هم جزء أصيل من الذاكرة المؤسسية، وخروجهم من دون توثيق معرفتهم يُمثل استنزافاً حقيقيا لرصيد المؤسسة من الخبرات.
وفي المؤسسات الرائدة عالمياً، تُعد الذاكرة المؤسسية جزءاً لا يتجزأ من أصولها الاستراتيجية. ولننظر إلى تجارب مثل «تويوتا» في اليابان أو «ناسا» في الولايات المتحدة الأميركية، كلتاهما نجحتا في بناء نظام صارم لإدارة المعرفة، إذ تُوثَّق كل مرحلة من مراحل المشروعات بدقة بالغة، مع توضيح الأسباب، والأهداف، والتحديات، والنتائج المتحققة. وتُحوّل هذه المنهجيةُ المعرفةَ المؤسسية إلى مرجعية صلبة وموثوقة لأي إدارة جديدة، تُمكّنها من البناء على الأسس القائمة بدلاً من إعادة اختراع العجلة من جديد.
إن بناء ذاكرة مؤسسية قوية ومرنة ليس ترفاً إدارياً، بل ضمان لاستدامة الأداء وفاعلية القرارات. وهذا البناء يبدأ من الإيمان العميق بأهمية احترام الماضي مرجعاً للمستقبل، وتوثيق التجارب والقرارات بوضوح، وتحويل المعرفة المؤسسية إلى نظام حَي يتجدد مع كل دورة إدارية جديدة. والمؤسسات التي تُدرك قيمة ذاكرتها المؤسسية هي تلك التي تُراكِم إنجازاتها، وتتجنب تكرار أخطائها، وتخطو بثقة نحو المستقبل. إن الذاكرة المؤسسية ليست مجرد أداة توثيق، بل هي البوصلة التي تُرشد صُنّاع القرار نحو قرارات أكثر حكمة، ومسارات أكثر وضوحاً، وإنجازات أكثر استدامة.
*مستشار مدير جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية