في جمهورية تشاد حيث كنت الأسبوع الماضي للمشاركة في ندوة حول الرهانات السياسية والاستراتيجية في منطقة الساحل الأفريقي، تناول الكلام خبراء وباحثون من الدول الساحلية الثلاث التي أعلنت مؤخراً قيام الاتحاد الكونفدرالي بينها (مالي وبوركينا فاسو والنيجر) من أجل الدفاع عن طبيعة الأنظمة السياسية الجديدة القائمة في هذه البلدان التي تحكمها أنظمة عسكرية علّقت المؤسسات المنتخبة وأنهت الوضع الدستوري الذي كان سائداً.
وبالنسبة لهؤلاء الباحثين، فقد فشلت تجارب الديمقراطية الليبرالية في الساحل الأفريقي، إذا اعتمدنا مقاييس الأمن الداخلي والرفاهية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي، متسائلين: ما الفائدة من نظام ديمقراطي لا يكفل هذه المطالب الأساسية؟
وهل تنافسية النخب السياسية مقياس أوحد صالح لتقويم الأنظمة السياسية؟ نقاشات نجامينا تمحورت حول العلاقة بين الحرية والأمن التي هي الإشكالية المحورية في الفكر السياسي الحديث. ومن المعروف أن النظرية الليبرالية الحديثة تولدت من هذه الإشكالية، بحثاً عن صياغة تأليفية ناجعة بين مبدأ الإرادة الذاتية الحرة ومقتضيات السلم الأهلي التي يتهددها تناقض وتصارع الإرادات السيادية الفردية. الحل الذي توصلت إليه النظرية الليبرالية هو وضع أطر مؤسسية لشرعية الحكم، انطلاقاً من معايير التمثيل والمشاركة التي تكفل للفرد أن يرى مصالحه وخياراته متجسدةً في السلطة المركزية التي يمتثل لها.
بيد أن الإشكال النظري المتعلق بالأمن والحرية لم يحسم أبداً في الفلسفة الليبرالية، رغم المقاربات الثلاث الكبرى التي بلورتها هذه الفلسفة، وهي: أطروحة العقد الاجتماعي في القرن الثامن عشر، بتأرجحها بين التنازل الطوعي عن الحرية من أجل السلم المدني (هوبز) وترجمة الإرادة الفردية إلى إرادة مشتركة، وإن كانت غير قابلة للتنازل أو التمثيل (روسو)، وبين أطروحة الترابط المصلحي المفضي للتضامن المدني (لدى المدرسة النفعية)، وأطروحة العدالة التوزيعية لدى جون رولز. ما حدث هو أن الإشكالية تم تجاوزها لاحقاً في نماذج مؤسسية اعتبرت كونية وقابلة للاستنساخ في كل المجتمعات والثقافات.
ومن هنا خضعت أفريقيا، كغيرها من مناطق العالم، لتجارب الديمقراطية الليبرالية التي ذهب الكثير من الباحثين والسياسيين الأفارقة إلى أن مآلاتها كانت هزيلة بالنسبة لدول القارة التي عَرف العديد منها حروباً أهلية طاحنة على خلفية الانتخابات التعددية التي كانت في الغالب وبالاً على الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي.
والمثير في الأمر أن بعض الأنظمة العسكرية التي افتكت السلطة من حكومات ديمقراطية منتخبة تبدو متزايدةَ الشعبية في الوقت الراهن، بينما تَراجع حضور وأداء الأحزاب الليبرالية العتيدة التي هيمنت في السابق على المشهد السياسي. لقد أطلق المؤرخ والفيلسوف الكاميروني أشيل بمبة على هذه الأنظمة العسكرية الجديدة تسمية «النخب السيادية الجديدة» في أفريقيا، واعتبر أنها القوة المستقبلية الكبرى في القارة، تستخدم أحياناً طرق الانقلابات للوصول إلى الحكم، بينما تستفيد في ساحات أخرى من المنافسات الانتخابية (كما هو الشأن في السنغال مثلاً في انتخابات أبريل الماضي التي أوصلت الثنائي بسيرو دوماي فاي وعثمان صونكو إلى قمة السلطة).
ومن المهم هنا التنبيه إلى أن هذه الخيارات السياسية الداخلية تواكبها في الغالب توجهات دبلوماسية جديدة، بما يبرز علناً في التحالف القوي مع روسيا وأطراف دولية أخرى، على حساب العلاقات التقليدية مع الغرب، وبصفة خاصة فرنسا التي فقدت آخر مواقعها العسكرية في منطقة الساحل الأفريقي. هل تشكل هذه الأنظمة العسكرية الجديدة خياراً ناجعاً في المستقبل للخروج من الأزمات السياسية الداخلية الحادة التي تعرفها القارة؟
لا مناص من التذكير بأن القارة عرفت منذ منتصف الستينيات إلى بداية التسعينيات سلسلة متواصلة من الانقلابات العسكرية التي لم تسلم منها إلا جمهورية السنغال في غرب أفريقيا. ولا خلاف على أن هذه التجارب العسكرية كانت فاشلة ومحبطة، بيد أن مسار الانفتاح الديمقراطي الذي عرفته هذه الدول منذ التسعينيات كان في الغالب نتاج الضغوط الخارجية، ولم يصدر عن ديناميكية تحول داخلي حقيقي، بما يفسر هشاشة تجارب الانتقال الديمقراطي التي عرفتها الدول الأفريقية. وتساءل البعض: هل مصلحة أفريقيا تكمن في حالات التعددية الديمقراطية «الفاسدة» أم في الأنظمة الأحادية «الإصلاحية»؟
لا يبدو هذا الخيار عقلانياً ولا موضوعياً، فإذا فهمنا الديمقراطية في روحها الموضوعية التي هي منظومة الحقوق والحريات ومتطلبات المشاركة السياسية فلا محيد عنها، وإذا كانت تعني استنساخ نماذج جاهزة مستوردة عصية على الاستنساخ خارج سياقاتها الأصلية، فلا بد من الإقرار بأنها قد تكون فعلاً عقبة أمام الاستقرار الاجتماعي والتضامن المدني.
*أكاديمي موريتاني