من لطائف المصادفات أنّ هذا اليوم الذي أكتب فيه مقالتي نصف الشهرية لجريدة الاتحاد الغراء، يوم الجمعة 27 ديسمبر، هو اليوم الذي دخلت فيه القفص الذهبي قبل خمس وأربعين سنة «45 سنة»، والأسرة ملتحمة، والأبناء والبنات في نعمة من الله وفضل. ولله الحمد والمنّة.
لقد كنت دوماً أتصور الأسرة سفينة تجري في أمواج البحر، ممّا يعتورها من موجات هادئة تُهدهدها، وتُشعرها بالسّعادة والأمن، وأمواج كالجبال تكاد تعصف بها، بما تقذفه في جوفها من هديرها الصّاخب بالشّقاوة والخوف، وتظل حكمة الربّان، ولطائف المنن، وصدق العشرة، المخارج الكبرى من الضّيق، والنّجاة المفضية إلى اليسر. فالأسرة هي دوماً بين الإقبال والإدبار حتى تستقر، استقراراً تاماً، ولعل التعديلات الأخيرة المقترحة على مدونة الأسرة بالمغرب أن تسهم في ذلك إسهاماً كبيراً.
لقد كانت الأسرة منذ القديم موضع اهتمامات الفلاسفة حتّى إنّهم عندما كانوا يُقسِّمون موضوعات الفلسفة يجعلون قسماً يسمّونه «تدبير المنزل». إذ إن أول تجمع بشري كان من ذكر وأنثى، فهو اللّبنة الأولى للمجتمع، وكلما كثرت اللّبنات السّوية كان المجتمع أكثر قوة وأشدّ تماسكاً، ومن هنا عناية الحكماء بهذا التجمع البشري الصغير أساس التجمعات الكبرى التي تتنظم فيما بعد وفق هرمية معينة، وتخلق هيئات إدارية مختلفة للتّنظيم والتّوجيه وحسم الخلافات، وتقسيم الأعمال وتوزيع الثّروات، فنجد أنفسنا أمام دولة قائمة الأركان، أصلها أسرةٌ بعيدة في الزمن والآن. ومن هنا ارتباط الهمّ الأسري بالهمّ السّياسي، إذ الإنسانُ فضلاً عن كونه حيواناً اجتماعياً، لا يستطيع الحياة في عزلة وتوحّد، فهو حيوانٌ سياسي أيضاً لا يستطيع العيش دون تنظيم قانوني يحدد الحقوق والواجبات، ويجمع القوى والطّاقات، ويبني بسواعد أبنائه عُمْرَانَهُ البشري.
ولاشكَّ أنّ حملة تشجيع دولة الإمارات على إقامة الأُسر، والدّعوة إلى تكوينها وبناء أسسها، وحث الشّباب على القِران، لهي دعوة حكيمة تبرز مدى البعد الاستراتيجي في نظر قيادتها الرشيدة من جهتين:
الجهة الأولى: تلبية داعي الفطرة، في سكنى الأزواج إلى بعضهم، وقد خلقوا من نفس واحدة. وهو الأمر الذي يجمع طاقات الشّباب ولا يُشتِّتُها، ويجعل المرء مُركزاً على أهدافه الكبرى في حياته، وهو أمر خبرتُه وجرَّبتُه منذ أن أكرمني الله بزوجتي، وأنا في ميعة الشَّباب.
الجهة الثانية: تكثير السّواد. والإمارات، ولله الحمد، بلد الخيرات الفكرية والمادية، قادرة على أن تربي أجيالاً من الأطفال تربية عالية، وتوفر لهم من الخدمات الكبرى تلك التي تُسرِّعُ نضجهم المعرفي والسّلوكي والعاطفي، وتجعلهم شامة في بلدهم وعالمهم، كما تجعلهم سواعد طيّبة في البناء والعمران. فالدّعوة إلى تكثير السّواد هي في الوقت ذاته دعوة إلى تكثير أجيال من الإماراتيين، من أُولى العلم والمعرفة والتّكنولوجيا العالية، ليرفعوا علم بلدهم شامخاً بين الأمم.
ولجدية هذا المقصد، وتفعيلاً لأهميته استحدثت الإمارات «وزارة الأسرة»، لتكون وظيفتها الرئيسة «تطوير وتنفيذ السياسات والاستراتيجيات والتشريعات والمبادرات المتعلقة بالعمل على بناء أُسر مستقرة ومتماسكة، وتعزيز دور الأسرة في التنشئة السليمة». وهو لعمري مقصد نبيل، وهدف استراتيجي حكيم.
لاشك أن حكومة الإمارات، بهذه البادرة الطيّبة، قد أعادت إلى المركز همّاً فلسفياً قديماً ينشد خلق فضاء سليم، لإنشاء الإنسان السليم، من طرف وَالديْن سليمين، في مجتمع سليم، لخلق مزيد من السّلامة والسّلام، كشرطَيّ إبداع الطّاقات وتألّقها. إن هذا البلد الذي صنع معجزة في فضاء الاتحاد لحريٌّ به أن يصنع معجزات في مجال الأسرة.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية