قد يستغرب المرء كيف يكون للمشي مديح في قول مستقل؟ وما قيمة القول أصلاً في موضوع مثل هذا؟ لاشك أن المشتغلين بالفلسفة يعرفون أن من المشي اشتقّ اسم أهمّ مدرسة فلسفية في تاريخ العالم القديم، والتي امتدّت إلى مشارف العالم الحديث، وهي مدرسة أرسطو المعروفة بالمدرسة المشّائية، والتي عرف أتباعها بالمشّائين، ومن أجلّهم في تاريخنا الفلسفي الإسلامي، ابن رشد؛ الشّارح الأكبر.
لقد كان أرسطو أول مشّاء بالفلسفة إلى الفلسفة، مع مريديه ممن طمحت همهم إلى ممارسة فعل التّفلسف، في مؤسسة رسمية عرفت بالأكاديمية، بعد أن كان جدّه سقراط أول مشّاء فلسفي في أسواق أثينا يحضر مخاض العقول يولّد ما تتذكّره من أفكار مما سبق أن عرفته في عالمها الأول، قبل أن تهبط «من المحلّ الأرفع»، بعبارة ابن سينا.
مناسبة هذا الحديث تجربة خاصة لبيت الله الحرام، حيث كان المشي سيّد العبادات، فالطّواف بأول بيت وضع للنّاس بأشواطه السّبعة، يرفع المشي إلى مستوى مقدّس، حيث يجتمع إلى جانب حركة الجسد مشياً وهرولة، حركة اللّسان دعاء وتسبيحاً، وحركة الفكر تأمّلاً واعتباراً. وهو مشي يكاد أن يقترن بالأزل حين نعلم أن البيت المعمور لا يفتر عن طواف الملائكة به بمشيها العجيب الذي لا نخبره، لكن يُمْتع تخيّله. عندها يشعر المرء بتطابق مشيه مع مشي كائنات نورانية تشاركه الحركة الأزلية المستديرة، فيكون لهذا المشيء المقدّس معنى عجيباً يخلع على الوجود الإنساني معنى وصل المتناهي باللامتناهي، والجسد المظلم الكثيف بالروح الخالص.
يدعّم هذا المشي الإنساني المسمّى طوافاً، مشياً آخر يعقبه، يسمى سعياً، وهو أيضاً من المشي العجيب الذي تكون حركة الجسد فيه حركة كلّية، مع تحرير الفكر للرجوع إلى أعماق التاريخ، حيث يكون السّعي بين الصفا والمروة ومن المروة إلى الصفا تذكيراً بحدث النّشأة الحضارية الأولى، التي قامت على سعي السيّدة هاجر ولواحقه؛ المرأة المرتجف قلبها على ابنها الرضيع، ونبع زمزم، وقبيلة جرهم، وغيرها من الأحداث التاريخية التي شكلت الحقل الخصب لزرع نبتة النّبوة، وبزوغ شمس الرّسالة في أحد الأيام من القرن السّادس للميلاد.
لقد كانت هرولة السّيدة هاجر ومشيها الحثيث قدراً من أقدار الحياة في الوادي غير ذي زرع، الذي ستجبى إليه من بعد ثمرات كل شيء، لأنه أصبح قبلة للزوار، يأتونه على كل ضامر، من كل فج عميق.
يقودنا هذا التّأمل في المشي إلى الإشارة إلى هذا الحقل الدلالي الواسع لمفردات المشيء في القرآن الكريم، حيث يَزْدوِجُ في المشي المعنى الحسّي حين يدعو القرآن إلى المشي في مناكب الأرض، والمعنى الرمزي عندما يدعو القرآن إلى المسارعة إلى المغفرة، وفي القرآن آيات كثيرة تنبه على هذا المعنى المزدوج للمشي.
كما يقودنا هذا التّأمل في المشي إلى التّنبيه إلى الدعوة النبوية إلى المشي اليومي إلى المساجد للصلاة، والحثّ على تكثير الخطوات مما يرغب في المشي إلى المساجد الأبعد، وهو في العمق تحريض على الحركة الجسمية والفكرية والروحية على السّواء، في أوقات من الليل والنهار، انسجاماً مع الحركة الكوكبية الدائمة، ليصبح المشي عبادة، لأنه وسيلة إلى العبادة.
تتضافر كثير من القرائن القوية على أن المشي هو من العادات القوية التي يكتسبها الفرد في ممارسته لشعائره، وفي ذلك تأكيد على أهمية الاعتناء بالصحة، ولعل مما يؤكد هذا المعنى أنه كانت للرسول الكريم عادة أسبوعية في المشي إلى مسجد قباء صباح كل سبت للصلاة فيه، وقد أصبح كثير من الأطباء اليوم ينصحون بالمشي بعدما ظهرت أعراض قلّة المشي بكثرة الفزع إلى الركوب، ولعل هذه المعاني الطبّية اليوم مما يعلل دعوة الشريعة إلى المشي، والتّحريض والثّواب عليه.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية