شيء جميل أن تكون شاباً غير مقيد بأي نوع من الالتزامات ومحظوظاً بما فيه الكفاية للعيش في برشلونة، المدينة الأوروبية النابضة بالحياة والجميلة. غير أنه من المفيد أيضاً أن تكون ممن يتقاضون أجوراً مرتفعة، لئلا تصبح من العالقين الذين ما زالوا يعيشون وهم في الثلاثينيات من أعمارهم مع والديهم أو يتشاركون في مسكن ضيق وحمام مع 6 من رفقاء السكن.
الإيجارات الباهظة، وعمليات البحث الشاقة عن الشقق، والنوم على الأريكة بشكل متسلسل. أمور باتت مألوفة في المدن الأوروبية التي تعتبر نقطة جذب للرحّالة الرقميين، والشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا، وطبقة الحاسوب المحمول (الموظفين الذين يعملون عن بعد).
وهؤلاء يمارسون ضغطاً شديداً على أسواق السكن المحلية ويدفعونه إلى نقطة الانهيار، وفي الأثناء، يفعلون شيئاً أكثر إثارة للقلق بكثير، ألا وهو تعميق الشعور بالظلم، بما في ذلك بين الناخبين الشباب، وهو ما أخذ يدفع العديد من الأوروبيين إلى دعم الأحزاب الشعبوية التي تروِّج لإصلاحات خيالية.
وخلال العام الماضي، استفادت الأحزاب «اليمينية المتشددة» في ألمانيا وهولندا من الإحباط بسبب ندرة المساكن، إلى جانب الهجرة، في تحقيق مكاسب انتخابية كبيرة. وفي فرنسا، يعطي حزب التجمع الوطني اليميني المتشدد الصاعد الأولوية للفرنسيين المولودين في فرنسا على المهاجرين في الحصول على السكن المدعوم وغيره من برامج الدولة.
وقد ركزتُ في تقريري الصحفي على برشلونة، وهي أحد الأمثلة المتشددة لأسواق السكن التي تعاني مشاكل كثيرة في أوروبا، ولكن كان بإمكاني بكل سهولة أن أختار أمستردام أو لشبونة أو مدريد أو غيرها من المدن. 
ففي برلين، مثلاً، أمضت زميلة لي في الثلاثينيات من عمرها وزوجها، وكلاهما يتقاضى أجراً محترماً، قرابة عام كامل في البحث عن شقة، حيث قاما بمئات الاستفسارات فيما بدا وكأنه سباق يومي ضد الساعة: 
فالقوائم الجديدة، التي كانت تغمرها الطلبات على الفور، كانت تختفي حتى قبل أن يتسنى لهما مشاهدة الشقق. وحينما تمكنا أخيراً من توقيع عقد إيجار شقة من غرفتي نوم في وقت سابق من هذا العام، سألهما أصدقاؤهما المذهولون كيف تمكنا من ذلك.
التحدي الأساسي هو أن العرض لم يواكب الطلب في المناطق التي يكثر عليها الطلب في أوروبا. غير أن هذه الحقيقة لا تعكس الاضطرابات الاجتماعية التي تنجم عن ذلك. 
ففي إسبانيا، ما زال قرابة ثلثي البالغين الذين تقل أعمارهم عن 34 عاماً، وكثير منهم لا يستطيعون تحمل كلفة استئجار مسكن، يعيشون مع والديهم، أي حوالي ضعف النسبة المسجلة في الولايات المتحدة. وهذا عائق كبير أمام الزواج وتكوين أسرة، وسبب رئيسي في أن إسبانيا تسجّل أحد أدنى معدلات المواليد في العالم الغربي. 
مدينة برشلونة - المكتظة بالسكان، والجاذبة للمهنيين الشباب والمهاجرين، والواقعة بين التلال والبحر – «تموت بسبب نجاحها»، هكذا قالت لي مونتسيرات باريخا إيستاواي، الخبيرة الاقتصادية بجامعة برشلونة.
وقد تحدثتُ مع بعض الشباب العشريني الذي يحاول التغلب على تحديات السكن في المدينة. وكانت التيمة المشتركة هي اليأس. 
فهذه ناتاليا جيل، شابة في السادسة والعشرين من عمرها، تعمل وكيلة مبيعات لفريق برشلونة الأسطوري لكرة القدم، وتتقاضى قرابة 23 ألف دولار سنوياً، أي أكثر بـ 50% تقريباً من الراتب المعتاد بين أقرانها الإسبان. هذا الراتب مكّنها من استئجار غرفة مع حمام مشترك في شقة مع 4 زملاء في الشقة. وتقول إن الحصول على مسكن خاص بها حلم بعيد المنال: «ربما بعد 5 إلى 10 سنوات من الآن، إذا سارت الأمور على ما يرام».
أزمة السكن دفعت حكومة بلدية برشلونة ذات الميول اليسارية إلى البحث عن حلول - بعضها رمزي، وبعضها غير قابل للتطبيق، وبعضها الآخر قد يزيد المشكلة سوءاً.
ضمن فئة الحلول التي تكاد تكون رمزية، توقفت المدينة عن تجديد تراخيص 10 آلاف مسكن موجه للتأجير عبر خدمة «إير بي آند بي» وغيرها من تطبيقات التأجير السياحي، وحظرها بشكل رسمي اعتباراً من عام 2028. ولكنها بالكاد تمثّل 1% من إجمالي المساكن في المدينة.
كما حاول المسؤولون إجبار المطوّرين العقاريين على تخصيص 30% من الوحدات الجديدة في المباني السكنية للإيجار للمستأجرين من ذوي الدخل المتواضع، ولكن الامتثال لذلك كان قريباً من الصفر.
وفي الآونة الأخيرة، فرضت برشلونة ضبط ومراقبة الإيجارات، مما أدى إلى خفض متوسط أسعار الإيجارات الجديدة، ولكنه أدى بالمقابل إلى تقييد العرض، مما دفع المطورين العقاريين والملاك إلى تحويل العقارات إلى قوائم الإيجارات الموسمية، والتي لا تخضع لمراقبة الإيجارات. ونتيجة لذلك، انخفضت الإيجارات طويلة الأجل المتاحة في برشلونة على مدى العام الماضي لوحده بنسبة 38%، وفقاً لموقع «آيديليستا»، وهو موقع قوائم للإيجارات.
«سيكون من الجنون الاستثمار في مساكن جديدة للإيجار أو بناؤها في برشلونة»، هكذا قال لي مارك ستوكلين، الذي يدير موقع «سبانيش برابرتي إينسايت» المتخصص في العقار، «إنه مشروع غير مربح».
من جهتها، أخبرتني لايا بونيت، نائبة رئيس البلدية المسؤولة عن الإسكان، أن المدينة تقوم حاليا ببناء 5 آلاف شقة مدعومة على مدى السنوات القليلة القادمة، وتخطط لمشاريع جديدة على أراضٍ مملوكة للمدينة. ولكنها أقرت بأنه لئن كان المال عاملاً مهماً - خصصت المدينة نحو 15% من ميزانيتها الاستثمارية البالغة 1.1 مليار دولار هذا العام للإسكان منخفض التكلفة - فإن الجهد سيستغرق وقتاً.
ولكن بالنظر إلى الغليان السياسي الناجم عن أزمة الإسكان، فإن الوقت هو بالضبط ما يفتقر إليه المسؤولون الأوروبيون! 

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسينج آند سينديكيشن»