ما تزال إسرائيل تصارع الوقت لإدخال الترتيبات الأمنية والاستراتيجية التي تقوم بها في جنوب لبنان وقطاع غزة حيز التنفيذ، والسؤال أي جبهة تحظى بالاهتمام والتعجيل؟
فالواضح أن إسرائيل ما تزال تتعثر في قطاع غزة برغم ما قامت به من فرض استراتيجية الأمر الواقع، والانتقال تدريجياً إلى إدارة مدنية للقطاع بعد تعيين حاكم مدني، والاستمرار في احتلال الممرات (صلاح الدين – نستاريم – ديفيد)، والتحول تدريجياً إلى فصل شمال القطاع عن جنوبه عبر تنفيذ مخطط الجنرالات الكبار في إقامة مناطق معقمة بصورة شبه كاملة لا وجود فيها للفلسطينيين بصرف النظر عن انتمائهم لـ«حماس»، أو «الجهاد» وهو المخطط الذي تعمل عليه كل قطاعات الدولة باعتباره مشروعاً كاملاً، ويعمل في اتجاهات محددة وفق تصور استباقي وضعه الجنرال جيورا ايلاند رئيس مجلس الأمن القومي الأسبق.
وفي المقابل ما تزال إسرائيل ترتب خياراتها في الجنوب اللبناني، وما تزال تسعى لفصل قرى الجنوب، والتعامل المباشر مع معاقل «حزب الله» في إطار خطة تدريجية ربما ستأخذ عدة أشهر قبل الحكم على إمكانية نجاحها، مما يتجاوز العمل على تعديل القرار 1701، ويضع كل الخيارات الأخرى في دائرة محددة، وبما لا يخرج عن الأطر الموضوعة بشأن إتمام الترتيبات الأمنية فيما وراء الليطاني، وتجاوز موضوع إقامة المنطقة العازلة. والرسالة هنا أن الترتيبات الأمنية التي تعمل عليها إسرائيل في الجبهتين يمضيان معاً وفي ظل ضوابط استراتيجية متعارف عليها، وتعمل في مساحات آمنة من الخيارات والمحددات، لكن الإشكالية التي تواجه الجيش الإسرائيلي أنه لم تعد هناك أولوية أمنية حقيقية يمكن التحرك من خلالها فرئيس الوزراء نتنياهو يتحدث بالفعل عن سبعة جبهات كاملة يجب على إسرائيل التعامل معها بجدية.
وبالتالي فان المحدد الرئيس التي ستعمل عليه إسرائيل من الآن فصاعداً، يتمثل في استمرار مخططها في قطاع غزة مع عدم الاستعجال في نقل مهام بعض الملفات اليومية وإدارة القطاع لطرف آخر، وبالتشارك كما كانت تدعو طوال الأشهر الأخيرة، وتلخصت في فكرة تشكيل قوى متعددة الجنسيات تدخلها أطراف عربية، وقد أبدت بالفعل بعض الدول موافقتها على هذا الأمر ما يعكس مقاربة محددة لكن في الوقت الراهن قامت إسرائيل بتأجيل طرح هذه الأمور، وربما تم تأجيلها من المستوى السياسي لإعادة تنفيذ مخطط يستند إلى عدم صلاحية القطاع للسكن مع استئناف سياسة الاستيطان داخل القطاع عبر منظمات صهيونية، وهو مخطط يحظى بقبول عام في إسرائيل، خاصة وأنه قد عقد مؤتمراً موسعاً في إسرائيل مؤخراً لإقرار استراتيجية الاستيطان.
في المقابل فإن ما تم مع «حزب الله»، وتوسيع دائرة المواجهة ومحاصرته باستراتيجية تطويق وتصفية عناصر الحزب القيادية والتعامل مع رؤوس الحزب والانطلاق إلى تنفيذ استراتيجية حرق الأرض، والعمل على نزع سلاح «حزب الله» فعلياً ما يؤكد على مخطط إسرائيلي يتجاوز ما كان موجوداً بعد حرب 2006، ويؤكد أن إسرائيل ماضية في إطار تحييد جبهة الشمال بصورة كبيرة في الفترة المقبلة حتى لو طالت الحرب، وبرغم ما أبداه «حزب الله» من توجهات لوقف إطلاق النار، والبدء في تنفيذ القرار 1701، وهو ما سيأخذ مزيداً من الوقت بصرف النظر عن تجاوب «حزب الله» أو عدم تجاوبه.
المتوقع أنه لن يتم نزع سلاح الحزب لكن تدمير البنية العسكرية للحزب خطوة مهمة وتأتي على رأس الأولويات، والوصول إلى معاقل الحزب ومخازن سلاحه في سوريا على رأس الأولويات المطروحة في العملية العسكرية الراهنة. ولعل استخدام إسرائيل للقوة المفرطة بصورة لافتة ما يؤكد أنها تريد حسم المواجهات مبكراً، وإنْ استمرت حالة المقاومة من الحزب في ظل حالة من الانقسام والارتباك الواضحة بعد تصفية قادته الكبار، والتي لن يصلح معها بالفعل اختيار قيادة جماعية لإدارة الأوضاع في الحزب مثلما جرى أيضاً في حركة «حماس».
يمكن التأكيد إذاً على أن الخيارات الرئيسة أمام إسرائيل لن تكون الترجيح بين جبهة الشمال في مواجهة جنوب لبنان، أو إقرار الترتيبات الأمنية والاستراتيجية في قطاع غزة، بل ستكون مرتبطة بما تعمل عليه حكومة نتنياهو، وتقنع الجمهور الإسرائيلي بقدرة الدولة على الردع، وعدم العودة إلى أية تهديدات من أي نوع، أن الإشكالية الكبرى التي تتحرك فيها إسرائيل ليس استعادة المحتجزين بل القضية المهمة بقاء الدولة، وإعادة تحصينها بما يمكن أن يتم من خلال استخدام القوة، والردع الجديد الذي يمكن أن يحقق لإسرائيل أمنها ويقف في مواجهة أية تحديات محتملة.
فالهدف الراهن لإسرائيل يتمثل في ضمان عدم عودة خطر أية فصائل مجدداً، ولو تطلب الأمر الاستمرار في الحرب لأشهر ممتدة. فالحرب الخاطفة التي كانت تعمل عليها إسرائيل لم يعد لها وجود بالفعل، وإلى حين تحقق إسرائيل مخططاتها لن يكون هناك أية أولوية إلا لأمن، واستقرار إسرائيل في المديين المتوسط وطويل الأجل.
*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية.