ربما تكون التفاعلات الداخلية التي ستعقبُ إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية التي ستبدأ الثلاثاء المقبل الاختبارَ الأكثر صعوبةً في تاريخ النظام السياسي الأميركي منذ ستينيات القرن التاسع عشر. اختبارُ سيكشفُ هل حدث تغيرٌ فعلاً في الثقافة الديمقراطية التي يقوم عليها هذا النظام؟ وإلى أي مدى ما زالت أركانُه الأساسية المُرتبطةُ بهذه الثقافة مستمرة؟
قبول الآخر واحترامُه ركن أساسي في هذه الثقافة، وفي تقاليد أُرسيت في مرحلة التأسيس، وعُمقت منذ النصف الثاني للقرن 19. ولكن المعاركَ السياسية المُحتدمة، والتي بلغت ذروةً غير مسبوقةٍ في الحملات الانتخابية الراهنة، تشي بأن رفض الآخر صار غالباً. ولهذا لم يُستغرب مثلاً حرصُ منظمي المناظرتين الرئاسيتين، بين دونالد ترامب وجو بايدن ثم كامالا هاريس، على إلغاء صوت الميكروفونين في كلٍ منهما إلا عندما يتحدث أحدُهما في دورِه، تجنباً لمُقاطعاتٍ تُفسدُ الأجواء.
ولا يقتصرُ عدم القبول المتبادل على النخب السياسية. فالتعصب والتشدد واضحان في مواقفِ كثيرٍ من أنصارهما. ولهذا يتسم التفاعل السياسي بالعدوانية، في تعارضٍ مع ركن ثان في ثقافة الأميركيين الديمقراطية، وهو التنافسُ المفتوح استناداً إلى برامج وخطط، وليس اعتماداً على دعايةٍ سوداء.
التداول على السلطة ركن ثالث في هذه الثقافة. وهو يقوم على قبول نتائج الانتخابات، وترحيب الخاسر بها حتى إذا لم يكن راضياً عن نتيجتها لأي سبب. ولا يستقيمُ هذا الركن مع تشكيك الخاسر - أيُ خاسرٍ - في صحة فوز منافسه، ثم سعي الفائز إلى الطعن في أهلية خصمه للترشح في الانتخابات التالية. الأصلُ في هذا الركن أن صندوق الاقتراع هو الحكم، وليتنافس المتنافسون.
غير أن ما حدث منذ بدء الحملات الانتخابية غير ذلك، كما هو الحال بالنسبة إلى التجديد المستمر الذي يُعد الركن الرابع في هذه الثقافة. وهو ينطوي على أهميةٍ خاصة لأنه يرتبط بحالة النظام السياسي. ومن أهم معايير قياس هذه الحالة قدرةُ النظام على ضخ دماءٍ جديدة في العملية السياسية. وتبدو هذه القدرةُ الآن في أضعف مراحلها ربما منذ تأسيس الدولة التي بُنيت على ثقافةٍ يؤثرُ انحسارُها بالضرورة على حيوية النظام السياسي. وهذا أحدُ أخطر ما حذر منه الآباءُ المؤسسون. فكلما قلت الحيوية، ازداد الجمودُ بكل تداعياته السلبية على الأوضاع الداخلية والسياسة الخارجية في آنٍ معاً. ويبدو هذا الجمودُ الآن في ذروته مقترناً بحالة شيخوخةٍ تدب في النظام.
ولذا ستكشف التفاعلاتُ، التي ستبدأ اعتباراً من الأربعاء المقبل، إلى أي مدى حدث تغيرٌ في هذه الأركان الأساسية لثقافة الشعب الأميركي. وستُختبرُ عملياً فرضية أن وجود ثقافةٍ توصف بأنها ديمقراطية لفترةٍ طويلة لا يمنعُ تغيرها إن اختلفت الظروف. وفي كل الأحوال صار من الضروري مراجعةُ نظريات الثقافة السياسية التي تحظى بتقديرٍ كبيرٍ في أوساط دارسي العلوم الاجتماعية منذ أن وضع أُسسها جابرييل ألموند وسيدني فيربا في كتابهما المهم «الثقافة المدنية» الصادر عام 1963 اعتماداً على النموذج الأميركي.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية