مارا كارلين باحثة أميركية مرموقة في العلاقات الدولية وموظفة سامية في إدارة الرئيس جو بايدن، وقد كتبت مؤخراً في مجلة «فورين آفيرز» مقالةً مهمةً بعنوان «العودة للحرب الكلية». وفي هذه المقالة، تبين كارلين أن الولايات المتحدة الأميركية تعاني في الوقت الحالي مِن مصاعب جمة في إدارة الحرب، مع التغير الجاري في أدوات الردع والمواجهة التقليدية.
فخلال حقبة الحرب الباردة كانت النزاعات تدور بين قوى كبرى، وكانت محكومةً بنجاعةِ منطق الردع النووي.
وفي تسعينيات القرن الماضي، خلال مرحلة ما بعد الصراع القطبي السابق، غدت الحرب تدار وفق منطق التحالفات الموسعة لمواجهة الدول المعتدية أو لإطفاء الحروب الأهلية أو لمعاقبة الأطراف التي تستهدف قتل المدنيين. وبعد أحداث 11 سبتمبر برزت حروب الإرهاب التي وجهت النظرَ للجماعات والحركات المسلحة العنيفة، مقابل الحرب التقليدية التي كانت تستهدف حكوماتٍ ودولاً.
وفي كل هذه الحالات لم يكن الأمر يتعلق بحروب بالمعنى الدقيق للعبارة، بل إن الولايات المتحدة اعتبرت أن الخطر الاستراتيجي الذي يتهددها ليس المواجهة العسكرية بل التنافس الجيوسياسي والاقتصادي مع الدول الصاعدة وبصفة خاصة الصين. وفي سنة 2022 تغيرت الصورة مع الحرب الأوكرانية التي هي الحرب الإقليمية الثانية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وبعد سنتين من اندلاع هذه المواجهة المسلحة، انطلقت الحرب الحالية في غزة.
وفي الحالتين، نلمس نهايةَ الحروب المحدودة والعودة لما عبّر عنه البعضُ في السابق بمصطلح «الحروب الشاملة» التي تجمع بين أطراف عديدة وتقتضي تعبئةَ موارد ضخمة وتهم دولاً ومجتمعات كثيرة. إلا أن الفرق بين الحروب الشاملة الراهنة وتلك التي جرت مِن قبل هو كونها تستخدم تقنيات جديدة غير مألوفة وتجري في عالم وحّدته المعادلةُ الاقتصادية الكونية. في الحروب الجديدة اكتسى الفضاءُ والمجالُ السبرنتيقي أهميةً قصوى، بما يظهر في أنظمة الذكاء الاصطناعي والمقاتلات المسيَّرة والشبكات الرقمية الفضائية.. إلخ، إلى حد أن منطق الردع النووي التقليدي تم تجاوزه وإن كان ما يزال يشكل خطراً كبيراً على مستقبل البشرية.
في الحروب الجديدة تتركز المواجهة في الجبهة البحرية (كما هو الشأن في البحر الأحمر والبحر الأسود وفي بؤرة الصراع القادم في المجال الهندي الصيني)، بما يشكل تحدياً كبيراً للولايات المتحدة التي ربطت دوماً أمنها الحيوي بالحفاظ على حرية الملاحة في الممرات المائية. وتخلص الباحثة الأميركية في مقالتها إلى أن كسب الحروب الشاملة الجديدة يتطلب الجمعَ بين الحزم والانفتاح الفكري، لكون هذه الحروب ليست مجرد نزاعات سياسية أو عسكرية، بل هي بالأساس ظواهر اجتماعية معقدة. لذا، لا بد للولايات المتحدة، كي تنتصر في هذه الحروب الجديدة، من توطيد شراكاتها وتحالفاتها مع الدول الموالية لها في جبهات الصراع العالمية، لكن يتعين عليها في الوقت نفسه معالجتها في محدداتها الاجتماعية والثقافية.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن مارا كارلين، وإن كانت ترجع مفهومَها حول «الحرب الشاملة» إلى كلاوزفيتز، فإن المصطلح ظهر في الحقيقة لدى الفيلسوف والقانوني الألماني كارل شميت الذي ميَّزه عن نمطين آخرين من الحرب، هما «الحرب المطلقة» التي تحدّث عنها كلاوزفيتز، وحرب القضاء المبرم التي اعتمدتها المدرسة العسكرية الألمانية في العهد النازي.
«الحرب الكلية»، أو الحرب الشاملة، كما تنبّه إليها شميت في خمسينيات القرن الماضي، هي فهم مبكر لخروج الحرب من منطق المواجهة العسكرية إلى المجال الأيديولوجي والاقتصادي، في حين أن الحرب المطلقة تدخل في نطاق العنف العسكري غير المحدود.
وفي السنوات الأخيرة، ظهرت كتابات عديدة تتحدث عن نهاية الحرب، بمعنى خروج الإنسانية من منطق العنف والمواجهة المسلحة، بما يشكل اتجاهاً واضحاً في القانون الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية نحو تجريم الحرب الهجومية وحصر الشرعية في الدفاع المشروع عن النفس، مع احترام معايير السيادة الوطنية للدول. إلا أن المفهوم اللاهوتي القديم لـ«الحرب العادلة» عاد إلى الواجهة في بعض الأدبيات الغربية التي وجَّهت النظرَ لمتطلبات الضربة الاستباقية في حالات انهيار البنية السيادية لدولة من الدول أو حدوث انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان.
ما نشهده حالياً ليس العودةَ للحرب التقليدية، ولو في دلالة الحرب الشاملة، وإنما تجذر وتنامي نموذج «الحرب الشاملة» الذي تحدث عنه شميت بعد أن تراجع المنظور السياسي والعسكري للحرب، وتنامى البعد الاجتماعي والاقتصادي، الأمر الذي ينذر بانفلات العنف من كل تأطير قانوني أو أخلاقي.
* أكاديمي موريتاني