على الرغم من أن دول الاتحاد الأوروبي من أوائل البلدان التي بدأت معها دول مجلس التعاون الخليجي مباحثات لإقامة منطقة للتجارة الحرة قبل أكثر من ثلاثين عاماً، إلا أن هذه الجهود تعرقلت بسبب المزج الأوروبي بين ما هو اقتصادي وما لا يمت للاقتصاد بصلة، مما أدى إلى تجميد هذا التوجه لفترة طويلة، في حين مضت دول المجلس قدماً ووقّعت العديد من اتفاقيات التجارة الحرة مع العديد من الدول والتكتلات الاقتصادية.
وفي الوقت الذي أوجدت دول المجلس بدائل أرخص، وبجودة عالية، في الأسواق التي وقّعت معها مثل هذه الاتفاقيات، بالإضافة إلى استحداث منافذ تصديرية جديدة لأسواقها، فإن دول الاتحاد الأوروبي خسرت الكثير من عملية التعطيل وإقحام مسائل غير اقتصادية في شأن اقتصادي وتجاري بحت.
وقد أدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ضمن ما سمي «بريكست» إلى تغير العديد من المعطيات السابقة، حيث ينتظر أن توقع كل من بريطانيا والمجموعة الخليجية قريباً على اتفاقية للتجارة الحرة، مما سيعزز العلاقات التجارية والاستثمارية بين الطرفين.
ويبدو أن الاتحاد الأوروبي يحاول الآن تدارك هذا التأخير، وبالأخص بعد أن اكتسبت دولُ مجلس التعاون المزيدَ من الأهمية الاقتصادية والجيوسياسية خلال العقدين الماضيين وأصبحت لاعباً أساسياً في التجارة الدولية وفي حل أزمات المنطقة.
لذا عُقدت في بروكسل، أمس، أول قمة أوروبية خليجية، في محاولة لتجاوز بعض الصعوبات وتنسيق المواقف في العديد من القضايا والأزمات، إلا أن البحث في تطوير العلاقات التجارية والاستثمارية وإقامة منطقة للتجارة الحرة يأتي ضمن الأولويات التي تبحثها القمة.
وفي هذا الصدد قال كريستوفر فارنو، سفير الاتحاد الأوروبي لدى السعودية والبحرين وعمان: «إنه بالإضافة إلى الهدف المشترك للاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون للدفع باتجاه حل الدولتين بين فلسطين وإسرائيل، فإن الاتحاد الأوروبي لديه التزام قوي بالتوصل إلى اتفاق حول التجارة الحرة في هذه المرحلة، نظراً للعلاقات الاقتصادية القوية بين الجانبين»، مضيفاً أن «هناك بعض الجوانب الفنية التي ينبغي التغلب عليها»!
وفيما يخص دول مجلس التعاون، فإنه لا توجد لديها تحفظات أو مسائل فنية، حيث سبق وأن عولجت المسائلُ الخاصة بها في جولات المفاوضات السابقة، مما يعني أن الكرة الآن في الملعب الأوروبي من خلال فصل القضايا الاقتصادية والتجارية عن المسائل الأخرى التي لا علاقة لها بهذه الاتفاقية، مثل ما فعلت الدول والتكتلات الأخرى، ومثل ما تفعل وتسعى إلى فعله المملكة المتحدة حالياً، إذ أنه في هذه الحالة فقط يمكن تجاوز الصعوبات التي تحدَّث عنها السفير، فدول المجلس تتعامل بصورة مهنية بعيداً عن الاعتبارات الخاصة بالشؤون الداخلية لكل طرف.
وللتذكير، كان الاتحاد الأوروبي يشكّل في التسعينيات الشريك التجاري الأول لدول المجلس، إلا أنه فقد هذا المركز منذ سنوات لتأتي الصين والهند في مقدمة الشركاء التجاريين للمجموعة الخليجية، ففي مقابل 187 مليار دولار حجم التبادل التجاري السلعي بين دول المجلس والاتحاد الأوروبي في عام 2023، بلغ حجم التبادل الخليجي مع الصين 287 مليار دولار، وفقاً للجمارك الصينية. كما بلغ حجم التبادل الخليجي مع الهند 185 مليار دولار، علماً بأن الاتحاد الأوروبي يتكون من 27 دولة بعد خروج بريطانيا.
ومع أنه من الصعب تصور تخلي الاتحاد الأوروبي عن مزج القضايا الاقتصادية بقضايا أخرى غير اقتصادية، فإن التجربة السابقة تبين بأن دول المجلس لا يمكن أن تتخلى بدورها عن فصل هذه المسارات، خصوصاً وأنها في وضع أقوى اقتصادياً وجيوسياسياً بالمقارنة مع ما كانت عليه قبل ثلاثين عاماً، كما أن لديها العديد من البدائل، بما فيها قرب توقيعها اتفاقيةً للتجارة الحرة مع المملكة المتحدة التي تدرك بدورها أهمية هذه الاتفاقية.
لذا فالمطلوب، إذن، هو المزيد من المرونة وفصل المسارات وتداولها بصورة مهنية لدعم العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية بين تجمعين مهمين ممثلين بمجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي، لنقل هذه العلاقات نحو مرحلة جديدة متقدمة، كما أشار إلى ذلك سفير الاتحاد.
*خبير ومستشار اقتصادي