الأحداث غير المتوقعة تغير المعادلة، وهذا ما حدث في هجوم «طوفان الأقصى» المباغت، الذي أحدث في إسرائيل صدمةً مؤثرة! وبالحسابات السياسية الموضوعية لنتائج الحرب الدائرة، نشير إلى مقال الكاتب الصحفي الأميركي توماس فريدمان، والذي كتبه في الذكرى السنوية للحرب بين «حماس» وإسرائيل، وقال فيه إن جميع الحروب تتعلق في نهاية المطاف بسؤالين أساسيين هما: مَن يربح المعركةَ على الأرض؟ ومَن يربح معركةَ القصة؟ قبل أن يوضح: ما أفكر فيه اليوم هو كيف أنه حتى بعد عام من الحرب، التي ألحقت فيها «حماس» و«حزب الله» وإسرائيل ألماً فظيعاً بقوات بعضهم البعض، وبالمدنيين أيضاً، لم يربح أحد بشكل حاسم المعركةَ على الأرض، ولا معركة القصة أيضاً.
إن إلقاء نظرة سريعة على ما يدور في الساحة العربية، تبين لنا كيف أن عدوى الميليشيات أصبحت منتشرة في العديد من البلدان، وبصورة تدعو للقلق من زيادة الانقسام واتساع التشظي. وفي أربعة بلدان عربية هناك الآن خوف من المستقبل، على الوطن والسلام والأمن والاستقرار، لما أصاب هذه البلدان التي كانت ذات يوم محل إعجاب الكثيرين، لما كانت تتمتع به من أمن وازدهار.. لكنها الآن مكبلة بقيود جماعات وفِرق غريبة ومتباينة الأطوار.
مواطنو هذه البلدان العربية الأربعة يتذكرون ماضيها القريب، فتصيبهم الحسرة والأسى لما لحق بوطنهم جراء سيطرة فِرق تتحكم بمقدرات بلدانهم وترهن مصائرها لأجندات غابرة!
وبتحليل سياسي وأمني لوضع إسرائيل، نجد أنها تتصل مباشرةً بالدول المحيطة بجوارها، بما فيها دولة فلسطين، وهذا وضع يتطلب أمناً وسلاماً وقدراً من القبول للعيش بسلام مع محيطها العربي.
دولة الإمارات ترى أن حربي غزة ولبنان تبرزان ضرورة تعزيز الدولة الوطنية، وتؤكدان أن وجود دولة فلسطينية مستقلة يمثل ضمانةً لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.
وبالفعل فإن المخرج الحقيقي يتمثل في خروج لبنان واليمن، وغيرهما من الدول العربية المبتلاة بهيمنة الميليشيات، من ربقة الجماعات المسلحة وارتباطاتها الخارجية، وأن تسلم أمرَها ومستقبلها للدولة الوطنية كي تقرر مصيرها، لا سيما أن النظام الدولي حليف داعم لدولة القانون بالتزاماتها المحلية والدولية.
لن يكون لدولة هلامية مستقبلٌ واعد ومكانة بين الدول، ولن يكون مقبولاً أن تتعامل الدول بيدين، يد «رسمية» تمثل الدولة، تصافح بها الدول والمنظمات الدولية، ويد «ميليشاوية» تقاتل خارج نطاق الدولة الأم. إن الدولة الوطنية لا تتعامل إلا بيد واحدة، أكان في السلم أم في الحرب.. وما عدا ذلك فوضى سيتم إغلاق سوقها ولن تقبلها الدول ولا المجتمع الدولي.
لكن الولايات المتحدة، وهي عضو في مجلس الأمن الدولي ودولة كبرى معنية بالأمن العالمي، أوجدت مبرراً للحوثيين في اليمن وحاولت إعطاءهم مشروعيةً، رغم تصنيفها إياهم على قائمة الحركات الإرهابية. كما أنها تخاطب حركة «حماس» بشكل مباشر أو غير مباشر، وبذلك تضعف موقفَ السلطة الفلسطينية المعترف بها دولياً. ولهذا نجد أنتوني بلينكن ينتظر موافقة «حماس» على اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، باعتبار أن وجودها أمر واقع، رغم أنها خارج إطار السلطة الفلسطينية، ولا تستطيع الانفراد بحكم غزة. وحتى لو توافق الفلسطينيون، فأميركا وإسرائيل ستطلبان موافقة «حماس»، بهدف عزل غزة عن الضفة ولمزيد من الاستثمار في الانقسام الفلسطيني.
إسرائيل لم تحقق أهدافَها في غزة، لكنها لن تترك «حماس» تحكم في القطاع، وعليها أن تعي الدرسَ، وهو أنه لا أمن ولا سلام لها إلا عبر التسليم بحقيقة الوجود الفلسطيني، أي ضرورة قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، في إطار حل الدولتين.

*سفير سابق