تقوم إسرائيل منذ أكثر من سنة بعمليات عسكرية في قطاع غزة بدعوى الدفاع عن النفس بعد هجمات 7 أكتوبر 2023، وقد راح ضحية هذه العمليات حتى الآن ما تجاوز الـ40 ألف من سكان القطاع، فضلاً عن ما يقارب الـ100ألف مصاب. ووفقاً للأرقام الإسرائيلية، فإن عدد مقاتلي «حماس» من بين ضحايا تلك العمليات يقارب 17 ألفاً، ويعني هذا بفرض صحة تلك الأرقام أن أكثر من 23 ألف من الأبرياء قضوا بلا ذنب ارتكبوه، حتى من وجهة النظر الإسرائيلية ناهيك بالمصابين. وتتذرع إسرائيل بأن هذا يرجع لاحتماء المقاتلين بالمدنيين، وتضيف أحياناً أن الأماكن المستهدفة تضم مخازن للسلاح والذخيرة، وفي حالات كثيرة لم تستطع إثبات هذا الادعاء كما ظهر مثلاً من اقتحام مستشفى الشفاء وتدمير محتوياته، وهو المستشفى الذي تم اقتحامه بدعوى أنه قاعدة للمقاتلين، ومع ذلك لم يوجد أي دليل على صحة القول هذا. كذلك قُصفت خيام النازحين في أكثر من مكان في القطاع بنفس الذريعة، وهي أن قيادات فصائلية تختبئ وسط السكان، وذلك دون أن تقديم دليل واحد على صحة هذا القول أيضاً. وباستثناء عمليات الاغتيال التي جرت بالاسم، خاصة في لبنان، فإن ضحايا القصف الإسرائيلي يتسمون بالعمومية، وثمة حاجة لتحقيق دولي نزيه وأمين لوضع النقاط فوق الحروف فيما يتعلق بهذه الممارسات.
وإذا كانت الممارسات السابقة بحاجة إلى تحقيقات دولية لإثبات الحقيقة، فثمة ممارسات لا تحتاج لمثل هذا التحقيق، لأن المصادر الرسمية الإسرائيلية لا تعترف بها فحسب وإنما تعلنها سياسة واضحة. وأتخير في هذا الصدد 3 أمثلة لها دلالة قاطعة، الأول منها يتعلق بسياسة العقاب الجماعي ضد أسر منفذي العمليات ضد إسرائيل، والذي يتمثل في هدم منازل أُسرهم، وهو ما يعني تشريد مَن لا ذنب لهم فيما جرى، وهو عمل لا تدعمه أي قاعدة قانونية. والمثال الثاني هو الأسلوب الذي تتبعه القوات الإسرائيلية عند رغبتها في اقتحام منازل يوجد بها مشتبه بهم، ويتمثل في اقتحامها للمنازل المجاورة للمنزل المستهدف، وتدمير الجدران الفاصلة بين المنازل التي يُفترض أن أناساً لا ناقة لهم ولا جمل في الموضوع يعيشون فيها وبين المنزل المشتبه به، وبالتالي يتم تدمير منازل يملكها آخرون مسالمون، وذلك لأن القوات الإسرائيلية تخشى السير في الطرقات المكشوفة كي لا تتعرض للقصف أو القنص. وإذا كان اقتحام منازل المشتبه بهم مفهوماً من وجهة النظر الإسرائيلية، فكيف يتم تبرير تدمير منازل الآخرين، ناهيك بهدر الخصوصية وامتهان الكرامة والرعب الذي تسببه هذه العمليات. والمثال الثالث يأتي من عمليات التدمير الممنهجة للبنية التحتية في الضفة بصفة عامة، والتي قامت بها القوات الإسرائيلية خلال عملياتها الواسعة هناك. ولا تبرير لأعمال التدمير هذه إلا كون القوات الإسرائيلية تعتبر أراضي المناطق التي تقتحمها كلها ساحةً محتملةً لمقاومتها، وهو حكم غير صحيح. وتسبب هذه الأعمال بطبيعة الحال صعوباتٍ هائلةً في الحياة اليومية لسكان هذه المناطق. وثمة حاجة ملحة للنظر في هذه الممارسات الحربية من وجهة نظر القانون الدولي عامة والإنساني خاصة، من أجل حماية الشعوب التي تتعرض للأعمال العسكرية، لكن مؤسسات العدالة الدولية للأسف تبدو عاجزة عن القيام بهذه المهمة.
*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة