وسط هذه الأزمات الخانقة والأجواء الملبدة بغيوم الحروب بين بعض الدول والطوائف، صراعات الأحزاب السياسية المتطرفة نحو اليمين ونحر «الديمقراطية» عبر اليسار وتشويه صورة الحكم الرشيد في العالم.
وتجربة الحربين العالميتين دليل صارخ على أن النجاة والنجاح كان عبر ركوب سفينة الدولة الوطنية، وخاصة بعد سقوط معظم الملكيات في العالم وتحويلها إلى جمهوريات، تتفاوت نسبة الإنجازات فيما بينها، ولكنها الأهم، أنها حافظت على وطنية دولها.
وفي تاريخنا المعاصر مصر حاضرة، بعدما انفصلت عن الخلافة العثمانية في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، وقد سمح لوالي مصر محمد علي باشا وعائلته الاستمرار في حكم مصر قرابة مائة وخمسين عاماً متواصلة حفاظاً على دولة مصر الوطنية عندما علمت الأستانة مركز الخلافة، بأن تقطيع أوصال الخلافة، أصبح «قاب قوسين أو أدنى»، وكان دستور الخلافة لا يسمح لأي والٍ البقاء في الولاية أكثر من سنتين، وكانت مصر الاستثناء الوحيد لأهميتها الاستراتيجية للعالم العربي والإسلامي.
وفي العالم الغربي نموذج يحتذى به للدولة الوطنية التي حصّنها «العقد الاجتماعي» لجان جاك روسو في سويسرا التي خاضت من قبل حرباً دامت ثلاثة قرون، وكانت حرب ناقة داعس والغبراء لا تعد شيئاً، بالمقارنة بها، وإنْ استمرت كما يقال أربعين عاماً.
الأحزاب السياسية التي تحكم في أوروبا وأميركا، تختلف في كل شيء، إلا على الوطن فأنصار هذه الأحزاب موحدون ومتحدون، وإن تصل الخلافات الجزئية بينهم حداً بليغاً، فالوطن عندهم فوق القوانين والدساتير، فيما لو تعرض لمكروه تتبدل من أجله كل الأطر المقيدة.
فالولاءات للأفكار المتضاربة والأحزاب السياسية تتقلص وتذوب أمام الدفاع عن المصلحة الوطنية.
وبنظرة فاحصة إلى العالم العربي والإسلامي، نلاحظ في الدول التي ذهبت وراء الغرب في التحزب، فشلت في تقديم مصلحة الوطن على كل المصالح الشخصية وإن سميت بغير اسمها.
حتى الدول التي آثرت القُطرية على القومية، صارت تغرد خارج سرب مثيلاتها، فلا فزعة ولا منفعة، غير الشماتة والسخرية والنتيجة صفرية.
نعود إلى الحياة السياسية في أوروبا وأميركا، في موضوع الدولة الوطنية التي بدأت بوادر الضعف تنخر في عظامها، بسبب تيارات اليمين المتطرف التي بدأت تكتسح حكوماتها، وتمسح من خلفها بقية الخير التي تتمتع بها الدول الوطنية، فهي لا تحتاج إلى غزو خارجي، بل يكفي فعل اليمين المتطرف لإسقاطها مع الزمن.
هذه النقطة الحساسة التي بدأت تطفو على السطح هناك، ينبغي أن تكون سبباً وجيهاً لمراجعة حساباتنا السياسية في عالمنا العربي والإسلامي، بحيث نعود نحن إلى التمسك بمصالحنا الوطنية، قبل أن يخطفها يمين متطرف أو يسار أكثر تطرفاً، فتعميق جذور الدولة الوطنية هو بالنسبة لنا سفينة نوح التي أنقذت في حمولتها كل شيء.
وهنا استحضر ما أشار إليه معالي الدكتور أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة، عندما قال: «في ظل الحروب والأزمات التي تهدد الأمن العربي والإقليمي، لا خيار أمامنا إلا باستعادة مفهوم الدولة الوطنية واحترام استقلالها وسيادتها. زمن الميليشيات بأبعاده الطائفية والإقليمية كلف العرب كثيراً وأثقل كاهل المنطقة، المستقبل للأمن والسلام والازدهار بمشروع عربي مستقل ومتصالح مع محيطه».
فصوت العقلاء في هذا السياق ليس «صراخاً»، بل صراحة متزنة من أجل إعادة ضبط رمانة الميزان إلى مكانها الصحيح من العقلانية، ينبغي التمسك بها في زمن نشاهد فيه موازين العقل مقلوبة.

*كاتب إماراتي