أكملت المواجهة الحالية التي بدأت في 7 أكتوبر الماضي سنةً كاملةً، واتسع نطاقها من غزة ليشمل مناطق من إقليم الشرق الأوسط. وما زالت احتمالات التصعيد هي الأرجح، بعد أن أعطت إسرائيلُ الأولويةَ لهدف القضاء على «حزب الله» اللبناني، وما تبع ذلك من تصعيد مع إيران كان قد هدأ مؤقتاً بعد أن قيل لها إن ضبط النفس يمكن أن يفضي لوقف الحرب. وفي هذه المواجهة الطويلة، لم يكن هناك أدنى شك في التأييد الأميركي الكامل لإسرائيل، اتساقاً مع السياسة الأميركية تجاهها منذ نشأتها، وبالتالي كان متوقعاً أن تؤيدها إدارة جو بايدن في المواجهة الحالية تأييداً كاملا، وأن تتسق مع تكييف إسرائيل لسلوكها باعتباره دفاعاً عن النفس، وتقدم لها كل ما تحتاجه عسكرياً عبر تزويدها بالأسلحة والذخائر، واقتصادياً بالمساعدات المالية، ودبلوماسياً باستخدام «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي بما يمنع أي إدانة محتملة لسلوكها. غير أن شدة الانتقام الإسرائيلي، وما أدى إليه من سقوط عشرات آلاف الضحايا، حرَّك المشاعرَ الإنسانية لدى شعوب دول تنحاز حكوماتُها لإسرائيل، بما في ذلك الولايات المتحدة ذاتها، فانطلقت المظاهرات المعارضة لإسرائيل والمؤيدة للفلسطينيين، وشارك فيها شباب أفضل الجامعات الأميركية، وقطاعات واسعة من الأميركيين الأفارقة وشباب الحزب الديمقراطي ذوو التوجهات اليسارية والعرب والمسلمون الأميركيون والسكان الأصليون.. إلخ. وأدى هذا إلى أن تصبح القضية الفلسطينية للمرة الأولى إحدى قضايا السباق الانتخابي، فقبل حملة انتخابات نوفمبر 2024 كان ذكر هذه القضية في الانتخابات الرئاسية الأميركية يأتي عرَضاً في سياق المزايدة بين المرشحَين، «الديمقراطي» و«الجمهوري»، على دعم إسرائيل، أما في هذه الانتخابات فإن تنامي التيارات الناقدة لإسرائيل والمتعاطفة مع فلسطين في ظل سباق متقارب بين المرشحَين الرئيسييْن جعل للموقف من القضية الفلسطينية وزنه النسبي في السباق الرئاسي.
وهكذا تطور الموقف الأميركي من التأييد المطلق لإسرائيل في البداية، والاتفاق معها في تكييف أعمالها كدفاع مشروع عن النفس، إلى محاولة إضفاء نوع من التوازن اللفظي على هذا الموقف، بتأييد «حل الدولتين»، ورفض تهجير سكان غزة واقتطاع أي جزء منها، والعمل على إدخال المساعدات لسكانها، والانخراط في جهود وقف إطلاق النار سواء في غزة أو في لبنان لاحقاً.. إلخ. غير أن هذه المواقف الجيدة لم تصاحبها أي محاولة جادة لوضعها موضع التنفيذ بضغط حقيقي على إسرائيل، وإنما اتخذت شكلَ إعلان المواقف والإعراب عن القلق وإبداء الآراء فيما يجب على إسرائيل أن تفعله أو لا تفعله كالقول بأن عليها أن تقلل من الضحايا المدنيين، أو ألا تقتحم رفح دون إجلاء السكان المدنيين، أو محاولة إقناعها بقبول صفقة وقف إطلاق النار وتبادل الرهائن، ونصحها لحظة كتابة هذه السطور بألا تهاجم المنشآت النفطية أو النووية الإيرانية.. وبالطبع لم تستجب إسرائيل للنصح الأميركي، بل سوَّت بين الولايات المتحدة وأي دولة صغيرة أو متوسطة القوة تبدي آراءَها في السلوك الإسرائيلي، حتى ذهب البعض إلى أن الأمر لا يعدو أن يكون لعبة متفقاً عليها لإعطاء إسرائيل الوقتَ الكافي لتحقيق أهدافها، وإن كنتُ لا أميل لهذا الرأي، فقد وصل التلاسن العلني وغير العلني بين بايدن ونتنياهو حداً غير مسبوق، لكنها معضلة الموازنة بين دعم إسرائيل ومراعاة مقتضيات السباق الرئاسي.
*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة