تعد السياسة الجغرافية الطائفية نمطاً سائداً في عصرنا الحالي وهو عصر بروز القومية الدينية حتى في أكثر المجتمعات علمانيةً في العالم، ولذلك تعد دراسة المعطيات السياسية الجغرافية الطائفية أمراً شائكاً وفي غاية التعقيد، وخاصة في حقبة الثورة الرقمية (جيوتكنولوجي) التي تلغي الحدود الجغرافية، ونحن عندما نتحدث عن السياسة الجغرافية الطائفية، فإننا نتحدث عن استخدام كل مكونات وأبعاد العمق الطائفي المرتبط بالمكان والزمان لتحقيق نفوذ خارج حدود الدولة، وجعل الجغرافيا وحقائقها في خدمة المذهب الطائفي، وإن كان الزمان يبدو متوقفاً منذ التكوين الأساسي للأفكار والمسلمات الطائفية.
أما الموقع الجغرافي فيبدو مطاطاً ومرناً وفق الأهداف السياسية المرجو تحقيقها، والمسافات التي من الممكن تغطيتها لنشر الأفكار والمعتقدات، وضرورات الأمن وفق الظروف المساحية للدولة وكيف سيكون شكل الدولة في المستقبل، وتختلف بذلك عن الجغرافيا السياسية التي تدرس كيان الدولة الجغرافي كما هو في الواقع.
بالنسبة للسياسة الجغرافية الطائفية، فإن قوة الدولة تكمن في قوة الإيمان والانتشار بالفكر الطائفي بين أكبر عدد من المؤمنين به، في مواقع جغرافية تمثل عمقاً حيوياً للدولة التي تسخّر التوجه الطائفي كوسيلة رئيسية لتجنيد الجماهير بصورة جماعية تجعل العقل الجمعي هو من يسيّر الجمهور، ويجعل الجماهير على مختلف أطيافها وموقعها الجغرافي والإثني متوحدة ومتوهجة لتحقيق الحلم الأسمى للمحرك المركزي للتوسع براً وبحراً، وهكذا هي الجيوبوليتيكية الطائفية التي تدرس المساحة من وجهة نظر الفكر الطائفي ومناصريه، فيكون هناك هيمنة عبر صناعة الرموز الشعبية في الدول المجاورة والتي تكون لها صلاحية وفق الغاية النهاية المرغوبة، ليقترن السلوك البشري بالجغرافيا الطائفية وتصبح نقاط التأثر المحلي هي نطاق المجال الحيوي وولاءات طائفية مستميتة يصبح فيها الوكلاء المحليين ممثلين الرب ورأس الهرم الديني في دولة التوسع المذهبي.
فقد يعتقد الكثيرون أن هذا التوجه السياسي الجغرافي الطائفي مرتبط بقارة معينة أو ثقافة معينة ولكنه على النقيض من ذلك، ويعتبر صاروخاً معتقدياً عابراً للقارات، ولا يتطلب بالضرورة الوحدة القومية والثقافية والروابط العرقية واللغوية والتاريخية لبسط النفوذ على الدول الأخرى والاستيلاء على الإرادة الشعبية وتهميش السيادة التاريخية فيها، حيث تقوم الدولة أو الكيان الديني العالمي بتسخّير الدين لإيقاع التأثير بعد تقييم المناطق الجغرافية من منطلق أهميتها الاستراتيجية، وكيف تحول المجتمع الضحية لخط دفاع متقدم لوجودها ونفوذها ومصالحها بصورة عامة. وهو سلوك ممارس في مختلف الديانات التي تعتبرها بعض الدول المرجع الأول لدستور دولها وإن كان غير مكتوب، فهو المرجع الأول في الدستور الشعبي غير المكتوب ولكنه الممارس بشكل يومي وله الاحترام والتقديس، وكما تتأثر الحركات البشرية بالظروف المناخية كذلك تتأثر بالمناخ الطائفي.
وفي هذا السياق لا يجب أن نتصور أن تتخلى بعض الدول عن نهج السياسة الجغرافية الطائفية كسلاح فتاك بأقل الخسائر، وأن لا تنشر سمومها في مجتمعاتنا كونها طريقة فاعلة للتأثير في ميزان القوى الإقليمية والدولية، حيث توضع لها استراتيجيات وميزانيات شبه مفتوحة ومرنة، وتستخدم كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتحقيق مستهدفات تلك الاستراتيجيات، وهو ما يرتبط بالقدرة على إحداث وإدارة التغيير وسط الجمهور المستهدف.
وهناك دول تتبنى الطائفية كسياسة خارجية ومن بينها دول كبرى وأخرى عظمى، ولك فقط أن تدرس مصطلح الشرق الأوسط ونظرية الاحتواء لتعرف ما هو السر الحقيقي للسياسة الجغرافية الطائفية، وارتداء فرسان المعبد وحراس الأرباب المختلفة للمعابد المقدسة للزي الغربي أو أزيائهم التقليدية لا يجعلهم مختلفين عن المتعصبين ممن يلبسون العمامات البيضاء والخضراء.
وبينما يعد مفكرو ومخططو الاستراتيجيات الكبرى للدول أحد أهم مصادر قوة الدولة، فهم يعتبرون في هذا الجزء من العالم منظّرين لا يفهمون في كواليس السياسة - وكأن السياسة في المقام الأول ليست دراسة وتحليل الواقع وفكر ومبادئ وعقائد تبني عليها الأمم توجهاتها وماذا ستكون في الغد القريب والمتوسط والبعيد – فأصحاب الرؤى الاستشرافية يرون ما لا يراه الآخرون، وهي نقطة فارقة في تقدم الأمم المزدهرة بصورة مستدامة.
*كاتب وباحث إماراتي متخصص في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات