مع استمرار انعقاد اجتماعات وفعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة سنوياً، فإن السؤال المتجدد دائماً ما يُطرح عن دور وأهمية التعامل مع الأمم المتحدة، ودورها في حفظ السلام والأمن الدوليين، في ظل ما يجري من صراعات في العالم حيث فشلت الأمم المتحدة في التوصل لحلول حقيقية للصراعات الراهنة، والتي كان آخرها الحرب في أوكرانيا وروسيا، والحرب المستمرة في غزة، خاصة أن هذه الصراعات اندلعت في ظروف التحول من نظام دولي تهيمن على فعالياته الولايات المتحدة لعالم جديد تدعو إليه كل من روسيا والصين ليكون عالماً متعدد الأقطاب ما يؤكد أن هناك مسعى، ولو نظرياً في مواجهة ما يجري خارج إطار الأمم المتحدة بل وتحدي وجودها في إطار جلسات انعقاد مستمرة ودورات استثنائية، وتكليفات للعديد من المبعوثين للتعامل مع الأزمات، وغيرها.
لكن لا يوجد ما يشير إلى أن الأمم المتحدة تؤدي دورها، خاصة أن كثيراً من دول العالم تسعى لأمم متحدة أخرى تعمل في سياقات دولية واقليمية متعددة، ولا تتوقف عند مساحة واحدة، والتسليم بما تقوم به الدول الباغية، والتي تريد تحقيق مساعيها السياسية والاستراتيجية، وهو ما يجري من دول رئيسة مثل روسيا والولايات المتحدة وإسرائيل وكوريا الشمإلىة وإيران ودول أخرى، ما يؤكد أن الأمم المتحدة باتت تواجه تحديات عديدة تتطلب تغيير ميثاقها الراهن، وإعادة بناء ميثاق جديد يتجاوز نظام مجلس الأمن الراهن.
اللافت أن هناك من ربط هذا المطلب المنشود بالقدرة على التغيير الراهن، وإدخال دول أخرى كبري مثل اليابان وألمانيا وجنوب أفريقيا، وإعطاء مقعد دائم للقارة الأفريقية، وغيرها من مقترحات تطوير نظام الأمم المتحدة مع تغيير قواعد التعامل ليس فقط في ميثاق الأمم المتحدة، وإنما أيضاً في سائر المنظمات المتخصصة، التي تحتاج إلى تصويب، خاصة أن مشروعات تطوير الأمم المتحدة موجودة، وتدور في سياقات مهمة متعلقة بضرورة إجراء هذا التغيير كأولوية أولى وعدم الاستمرار في هذا الوضع، وإلا فإن الأمم المتحدة ستنهار في المدى الطويل، وتتحول إلى منظمة عديمة الجدوى، الأمر الذي يتطلب القدرة على طرح فرص التغيير والتعامل بشجاعة في مسار هذا التغيير.
والسؤال كيف يتم هذا التغيير في الوقت الراهن، أو المحتمل في ظل ما يجري من صراعات خاصة أن هناك ما يؤكد أن بقاء الأمم المتحدة دليل على ايمان القوى الدولية بضرورة الحوار، والعمل معاً بصرف النظر عن استمرار الصراعات والحروب، ويكفي أنها منعت وقوع الحرب العالمية الثالثة، وأنها تؤدي دوراً في حل وتحليل الصراعات وأن الإشكالية الكبرى متعلقة بما يجري من تحولات رئيسة مهمة أهمها، سلوك وممارسات القوى الدولية.
القوى الكبرى لا تريد الانتقال إلى مرحلة جديدة من عمر المنظمة الدولية، والتحرك في اتجاه حسم الصراعات، وليس إدارتها مثلما يجري في مواجهات غزة إسرائيل، والعمل، انطلاقاً من قاعدة استمرار المواجهات التي أوشكت على الدخول في عامها الأول، ودون حسم مع استمرار الطرف الإسرائيلي في تغيير الواقع السياسي والجيواستراتيجي، ما يشير إلى توجهات محددة، كما يشابه مع يجري في الأزمات الليبية والسودانية واليمينية في العالم العربي.
إن الإشكالية الحقيقية في سلوك الدول وليس الأمم المتحدة، وإن كان هذا لا يعني إعفاء المنظمة مما يجري، أو التأكيد على أنها حاولت وعملت على بناء مقاربة سياسية واستراتيجية واقتصادية، وواجهت تقلبات ما يجري دولياً وأن المعضلة المستمرة في الرغبة في التعديل أو تغيير الواقع الراهن، أو الاقتراب من مشروعات التطوير المطلوبة، والواقع أنه لا توجد توجهات دولية حقيقية للتعامل، أو الانتقال تدريجياً إلى مسار سياسي دولي جديد انطلاقاً من هذا التوجه غير الموجود، الأمر الذي يطرح سؤالاً مهماً حول طبيعة ما يمكن أن يتم ويطرح في ظل ما يجري، وسيطرح، خاصة أن الأمم المتحدة كمنظمة دولية قد تواجه مستقبلاً مشبوباً بمناخ سلبي حقيقي. وفي ظل اتهام الأمم المتحدة في جلسات انعقادها بأنها تحولت إلى مكلمة سياسية، وأنها تنهار تدريجياً، يتجه بعضهم إلى تجمعات أخرى اقتصادية، وتحالفات سياسية كبيرة فظهرت العديد من التجمعات المتخصصة، والتي باتت هي المقصد لعديد من الدول، في إشارة إلى أن انتهاء عصر الأمم المتحدة، أو بناء منظمة جديدة على انقاضها قد يجري، ويتم في غضون سنوات وجيزة ودون انتظار لنشوب حرب عالمية جديدة، كما جرى في نظام عصبة الأمم المتحدة، والذي انتقل إلى الأمم المتحدة، والسؤال كيف يمكن التعامل مع واقع الأمم المتحدة –إن بقيت في موقعها الراهن دونما تغيير حقيقي – مع التسليم بدورها الراهن؟
سيتطلب هذا الأمر التعامل مع قيود التصويت وبيرقراطية الحركة، والقرار داخل الأمم المتحدة خاصة في إصدار قرارات وتوصيات لا تنفذ أو يعمل بها أصلاً، وتبقي دلالاتها رمزية أكثر منها واقعية، الأمر الذي يؤكد حتمية الانتقال من هذا الواقع إلى واقع جديد تتشكل فيه الكثير من الثوابت والمعطيات المهمة التي يمكن أن ترسم سيناريوهات الواقع السياسي القادم أمام الأمم المتحدة، وهو ما يتطلب ضغطاً دولياً، وإرادة سياسية حقيقية من القوى الرئيسة في النظام الدولي للخروج من الوضع الراهن لوضع مختلف يستند إلى مبادئ مختلفة، وإن تركزت بضرورة الحال على قواعد منضبطة للسلم والأمن الدوليين.
*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية.