جاءت زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، إلى واشنطن، وبيان «الشراكة الاستراتيجية الدينامية»، الذي صدر عن القمة الإماراتية-الأميركية (مساء الاثنين 23 سبتمبر 2024)، ليكشفا حقيقة الدور المحوري لدولة الإمارات وأهميته، ليس فقط في إدارة الأزمة الحادة التي يواجهها الشرق الأوسط حالياً، ولكن في تأسيس عالم جديد، ينفتح على آفاق تكنولوجية ومعرفية غير مسبوقة، قوامها الاعتماد على الذكاء الاصطناعي وبنيته الأساسية، واستكشاف الفضاء الخارجي.
يمكن فهم ما كشفت عنه قمة الأمس من رهان على دور الإمارات الإقليمي في ضوء تعثر جهود إنهاء أزمة غزَّة، وتفاقم المواجهة عبر الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، وهو ما بات ينذر بتفجر حرب إقليمية غير مسبوقة في تاريخ المنطقة، ويكشف بيان القمة أن الولايات المتحدة تقر بأن أدوار قوى إقليمية رئيسة، في مقدمتها دولة الإمارات ومصر وقطر، باتت مركزية ولا غنى عنها للحد من احتمالات التصعيد وخلق ديناميات للتهدئة والتوصل، لاحقاً، إلى تسويات تضمن استقراراً إقليمياً قابلاً للاستدامة.
لكن ما يميز وضع الإمارات هو أن الرهان على دورها، كقوة إقليمية مؤثرة، ارتبط أيضاً بوصف الرئيس بايدن لها بأنها «شريك دفاعي أساسي»، وفتح المجال أمامها للوصول إلى أحدث أنظمة التسليح الأميركية، والمشاركة في هذا التطوير، ويعني ذلك بجلاء أن الرهان على دورها وقدراتها على التأثير لا يقتصر على أزمة بعينها، بل يمتد إلى إعادة ترتيب الأوضاع الأمنية في النطاق الإقليمي الواسع عبر الشرق الأوسط وشرق أفريقيا والمحيط الهندي بما يضمن استقراره الهيكلي والمستدام.
من جهة ثانية، فإن تأكيد البيان شراكة البلدين في تطوير تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيات الحرجة والرائدة، يكشف عن ثقة الإدارة الأميركية وأجهزة صنع القرار المختلفة في الولايات المتحدة، في صدقية الالتزامات الإماراتية. لكن هذا التأكيد يكشف أيضاً، وهو الأهم، عن إقرار أميركي بأن ما خطته دولة الإمارات من خطوات كبيرة في هذه المجالات بات يؤهلها لتكون شريكاً يمكن التعويل عليه في تطوير هذه التكنولوجيات جميعها، وما يلزمها من بنية أساسية وموارد طاقة نظيفة كثيفة ومستدامة، ولا يقتصر ذلك على مستوى الدولة فقط، ولكن بحسب نص البيان، يمتد إلى الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وأفريقيا. بعبارة أخرى، فإنه بحسب الرؤية الأميركية، أضحت دولة الإمارات البوابة المثلى والأنسب التي يمكن أن تتيح لهذه المناطق جميعها ودولها وشعوبها الدخول إلى عالم جديد، يمثل الانتقال إليه ثورة معرفية وتكنولوجية غير مسبوقة في تاريخ البشرية.
أكدت الزيارة كذلك اعتراف الولايات المتحدة على مستوى النظام الدولي، حتى الآن، بأن المكانة التي باتت تحوزها دولة الإمارات في مجالات عدة تفرض ضرورة أن تكون الدولة جزءاً من عملية صنع القرار الدولي وقيادة النظام العالمي في هذه المجالات، وحدد البيان في هذا الصدد مجالات التكنولوجيا المتقدمة والرائدة، والبنية الأساسية والاستثمار، والطاقة النظيفة. كما شدد على التعاون في مجالات الأمن السيبراني واستكشاف الفضاء وسلاسل إمداد المعادن الحرجة، وأصبح الفضاء تحديداً مجالاً لسباق دولي محتدم يستهدف الوصول إلى إمكانية استغلال موارده. وتدعم هذه الشراكة الجهود الإماراتية المتواصلة والحثيثة لتعزيز قدراتها في هذا المجال، وتضمن مشاركتها في برامج استغلال الفضاء، وهو ما يفتح آفاقاً غير مسبوقة للتحديث والتنمية وبناء القدرات.
قد يقول قائل: إن هذا البيان ربما يعكس توجهات إدارة بايدن، ويتغير مع أي إدارة لاحقة. لكن الاستقراء الدقيق لما تضمنه البيان وبحثته زيارة صاحب السمو رئيس الدولة لواشنطن يكشف أن توجه الشراكة ومجالاتها يتجاوز بكثير خيارات محدودة لإدارة بعينها، بقدر ما يمثل خياراً استراتيجيّاً لمؤسسات الدولة الأميركية. يستند هذا الخيار إلى ما حققته دولة الإمارات، في ظل القيادة الحكيمة لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، من إنجازات استثنائية في هذه المجالات. لقد أضحت دولة الإمارات، بفضل الرؤية الاستباقية والمتبصرة لقيادة الدولة، رائدة إقليميّاً وعالميّاً في كثير من هذه المجالات، وفاعلاً مؤثراً لا يمكن تجاوزه.
كشفت الزيارة تجاوز دولة الإمارات مجرد كونها قوة متوسطة، إذ تتقدم بثبات لتكون شريكة في نظام دولي أكثر تعددية، وهنا ينبغي التأكيد بأن هذه الشراكة لن تغير ثوابت السياسة الإماراتية بشأن توازن علاقاتها الخارجية واستقلالية قراراتها في هذه المجالات. ستحرص الدولة على الاحتفاظ بعلاقات تعاونية ومتوازنة مع مختلف القوى الدولية الرئيسة، دون الإخلال بالتزاماتها الدولية، ونرى أن هذه الشراكة ستعزز دور الدولة في التوفيق بين القوى الكبرى والإسهام في ضبط حدة الصراعات الدولية السنوات المقبلة.
*كاتب إماراتي