تتقدم التكنولوجيا بوتيرة مذهلة لا تقتصر على تيسير الحياة اليومية، بل تحرك الاقتصادات باتجاه التنمية. ومع التطور التقني، ومخاطر الأمن السيبراني والتوترات الجيوستراتيجية، صار على دول الجنوب العالمي التفكير جدّيًاً في إنتاج التكنولوجيا المتقدمة وتوطينها، والاستفادة منها كأساس للتنمية. وقد تبدو التحديات الماثلة أمام دول الجنوب العالمي مستعصية، لكن يمكن التغلب على العقبات بتعزيز التضامن، والشراكة، وتبادل المعارف والخبرات في قطاعات التكنولوجيا والابتكار، إذ تستطيع التكنولوجيا المساعدة في التصدي لمعظم المشكلات، وإن انطوت على مخاطر الأمن الإلكتروني.

ويبدأ بناء اقتصادات تكنولوجية من البنية التحتية، وضمان توافر خدمات الإنترنت للجميع، وضمان اتصال واسع النطاق وشامل وبأسعار معقولة، مع خطط لتحديث الشبكات، ولاسيّما الألياف الضوئية والتقنيات اللاسلكية، واعتماد التقنيات والبِنَى المتقدمة لتحسين الأداء والموثوقية. ويعطي الاستثمار في البشر الفرصة للمبتكرين لتصميم تكنولوجيا تساعد على قلب المعادلات من الفقر إلى امتلاك التكنولوجيا.

وحال الارتكان إلى استيراد التكنولوجيا فقط، بدلاً من صناعتها وتطويرها، فإن الدول المالكة للتكنولوجيا ستبقى متحكّمةً ومهيمنة على الأسواق العالمية. وتمتلك دول الجنوب العالمي كفاءات قادرة على العطاء، غير أنها لا تعمل في منظومات تسمح لها بالإبداع أو هاجرت دولها، كما أن عدم الاهتمام بحقوق الملكية الفكرية وغياب الرؤية الاستراتيجية والمشروعات الوطنية قد يجعل البيئة طاردة، والأولوية العمل على الوصول إلى تكنولوجيات متقدمة وعدم اعتبارها رفاهية، وخاصة أن تكلفة الاعتماد على الغير في التكنولوجيا كبيرة، ومشروط غالباً بألا تحتفظ دول الجنوب بأحدث التكنولوجيات، لأن الأفضلية للدولة المصنّعة وليس المستوردة. وتدفع التكنولوجيا باتجاه تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ومعالجة الفجوة الرقمية بين دول الشمال والجنوب، وخاصة أن هناك خطراً متزايداً من عدم تمكُّن نصف سكان العالم من الوصول إلى التكنولوجيات الجديدة بتكلفة معقولة، حتى مع زيادة الاهتمام بالذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والروبوتات وتقنية البلوك تشين، ويعد الابتكار والإبداع وسيلة للتصدي للعديد من التحديات لدول الجنوب العالمي، إذ ينبغي أن تقترن السياسات العامة بتشجيع الابتكار، فالذكاء الاصطناعي قادر على النهوض بقطاعات متنوعة، كالاتصالات والزراعة والتعليم والصحة، ورفع العراقيل أمام التنمية الاقتصادية.

ولا ينبغي في عصر التقنية أن تكون التكنولوجيا في دول دون غيرها، ويمكن لدول الجنوب العالمي تحقيق قفزات تقنية هائلة ذات فوائد اقتصادية، وألا تتخلف عن الركب الدولي، بسد الثغرات والفجوات في مجالات العلوم والتكنولوجيا والابتكار، لنجاح مقاربات التنمية القائمة على الابتكار في تحقيق مكاسب في التنمية. إن الاستثمار في البحث العلمي أساسي في التطوير والنمو الاقتصادي، لكن تظل نسبة الإنفاق على البحث إلى الناتج المحلي الإجمالي منخفضة بالنسبة لمعظم البلدان الأقل نمواً، وهذه عقبة رئيسية أمام بناء القدرة التنافسية والقدرة على استيعاب التقنيات الحديثة، وللتغلب عليها يجب تأهيل الكوادر البشرية، والاهتمام بالتعليم، ووضع أطر تنظيمية تساعد على التكيف مع التطورات التكنولوجية بسرعة، وحماية الملكية الفكرية بوضع قوانين تشجع على الابتكار والبحث. ومع اتساع الفجوة التكنولوجية بين الشمال والجنوب، سواء في المجال الاقتصادي أو التكنولوجي، قد تجد الدول الناشئة نفسها تعتمد على استيراد التكنولوجيا من الدول المتقدمة، ما قد يقيد قدراتها على التطور بشكل مستقل، غير أن ذلك يطرح مخاطر أمنية تتعلق بالتهديدات السيبرانية، والقدرة المحدودة على حماية البيانات الوطنية والسيادة في الفضاء الرقمي.

وبإمكان توطين التكنولوجيا تقديم الحلول المبتكرة في الزراعة، وتقنيات الصحة، وتنمية الابتكار والإبداع في التعليم، ومعالجة تغير المناخ، وإدارة الموارد وتحسين جودة الحياة، والاستقلالية التكنولوجية والاقتصادية والأمنية، وخاصة إذا ارتبطت التكنولوجيا بمجالات عسكرية. إن الاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة ضرورة استراتيجية لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة في دول الجنوب العالمي، ويمكن تجاوز التحديات بتطوير القدرات التكنولوجية الوطنية، والتعاون مع بلدان الجنوب، وخاصة أن الصين مثلاً من أكثر 5 بلدان تقدماً في التكنولوجيا، كما تمتلك الهند خبرات تكنولوجية ضخمة.

ولأن أسواق دول الجنوب العالمي كبيرة ومتنامية، فإنها وجهة محتملة لجذب الاستثمارات التكنولوجية. ومع تبني سياسات تهدف إلى زيادة الابتكار المحلي، والتحول من الاستيراد إلى تصنيع التقنيات وتحجيم استهلاك الإنتاج، سيتحقق النمو المستدام.

*الرئيس التنفيذي- مركز تريندز للبحوث والاستشارات.