لم يقف في وجه الفلسفة عائق واحد، فقد تعددت عوائقها بتعدد المخاصمين لها، وكثير ممّن خاصمها جَهلَ حقيقتها في حركية التّقدم البشري، لاطمئنانه إلى المنفعة القريبة التي يقتنصها من الصنائع العملية، وجهله بالأفق النظري لها.
قديماً ردّد الفقهاء: «كل علم ليس وراءه عمل فلا فائدة فيه»، وهذا القول وإنْ كان صحيحاً في أمور العبادات والمعاملات الشرعية فهو ليس على إطلاقه في العلوم كلّها، وبخاصة العلوم العقلية، لكن الفهم الضيق للعبارة السابقة ضيّق من نطاق المعرفة العلمية في مجتمعاتنا الإسلامية، ولم يعد يحظى بالثقة من العلوم، إجمالاً، إلا العلوم التي يُرى أثرها العاجل بين الناس، ولم تكن هذه العلوم في الغالب إلا علوم الفقه، وبعض من علم المواقيت، وعلم الطب، وعلم النجوم، أما العلوم النظرية من رياضيات وفلك وفيزياء، وغيرها من العلوم التي على أساسها قامت الحضارة المعاصرة، فلم يكن لديهم بها كبير احتفال. والغريب أننا نجد هذه الفكرة نفسها تغزو نخباً علمية معاصرة ترى أن السبيل الوحيد للتقدم ليس غير اتباع فتوحات التّقنية والتحلي بالمهارة العملية في التخصصات العلمية النافعة، فبهذه العلوم وحدها تعرف الأمم ازدهارها وتألقها الحضاري، وهم بهذا الزعم لا يعرفون من العلم إلا ما تحته عمل ونفع عاجل، وبالتالي لا يجدون في القول الفلسفي فائدة تذكر، مادام مجالُه العقليات والنظريات، فيقومون بتخسيسه أمام أعين السّاسة وأصحاب القرار، كما صنع أسلافهم من الفقهاء، وقديماً كان أهل السياسة تحت نفوذ الفقهاء فآذوا فعل التفلسف ويكاد اليوم يتكرر الصّنيع إذ لم يُفطن لسطوة الفكر الأحادي لأنصار التّقنية ممن يمكن أن نسميهم ب«الفقهاء الجدد».
تُعلِّمنا الابستمولوجيا المعاصرة أن للأفكار عالمها المستقل بقوانينه الخاصة التي يخضع لها، كما تعلمنا أن العقل، الذي نفخر بفتوحاته اليوم، لم يصنع إلا في مختبر تاريخ العلم النظري، العلم والفلسفة، وأن ذلك تم في إطار الأنساق النظرية للعلم والفلسفة على السواء، وأن الكلمة السحرية في تطور العلوم كلها حتى بلغت المستوى الذي نلحظه اليوم، ونعاينه، ونستمرئ نتاجه هي «النظرية»، إذ النظرية لا علاقة لها أصلاً بأي نفع عملي في بدايتها أو نهايتها، فإذا فهمنا أن النظرية هي عبارة عن منظومة تقوم على مبادئ ومقدمات أولية تستنبط منها نتائج محددة، صِدْقُها في تناسقها المنطقي مع المقدمات، ليس إلا، بحيث لم يعد هاهنا معيار الحقيقة في مطابقتها للواقع، بل أصبح معيارها في تناسقها المنطقي وخلوها من التناقض، والمنهج الأكسيومي تجلّ كبير لذلك.
إن العلمَ لم يتقدم إلا عندما تمكّن من تخليص موضوعاته ومفاهيمه من أي أثر حسي، نفعي، وتخليص مقاصده من أي منفعة عاجلة يرومها أو يسعى إلى اقتناصها، ويعتقد الدارسون أن مع أفلاطون نشأت هذه الرؤية المنهجية من خلال نظريته في المثل، والكثير من الدارسين اليوم يعتقدون أن العلم اليوم هو أفلاطوني، لأهمية النظرية العلمية المجردة من كل نفعية عاجلة في صنع الحدث العلمي. حقا، إن الحقل النظري المعاصر تتقاسمه اليوم وجهتا نظر، وجهة نظر تقول بأسبقية التجربة على النظرية، ويمثلها الوضعيون، ووجهة أخرى تقول بأسبقية النظرية على التجربة، ويمثلها أنشتين ومريدوه، ولكن اليوم ومع اللقاء القوي للفيزياء بالرياضيات، حتى أصبحت الفيزياء لا تتصور من دون رياضيات، أصبحت للنظرية صَوْلَتُها الكبرى، وهي بهذا تضمن للعلم تقدمه وإنجاز فتوحاته الكبرى بقوة، لأن الرياضيات النظرية الخالصة أداة اكتشاف لا تنضب، وليست الفلسفة إلا صنو الرياضيات سواء في المنهج أو في النتائج المذهلة التي تحققها للعقل الذي يَدْخُلُ محترفها.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.