في العصر الرقمي، أحمل بيدي كتاباً ضخماً من قصص التراث العربي، وأتساءل: ما قيمة كل هذه الحكايات الهائلة في عصر تكنولوجيا المعلومات؟
الفكرة أخذتني إلى القراءة من جديد، لقراءة قصص عرفتُها وحفظتها، لكنني أتأمل في قيمتها الأخلاقية وصلاحيتها في زماننا، وهل صارت تلك الحكايات بكل ما فيها من قيم في متحف التاريخ؟
من بين هذه القصص تبرز شخصية حاتم الطائي، الذي تحول إلى رمز خالد لقيمة نادرة يصعب الحفاظ عليها في عصرنا الحالي، ألا وهي قيمة الكرم. وبينما تبدو هذه الفضيلة بديهية في سياقها التراثي، يظل السؤال: كيف يمكننا استيعاب هذه القيمة اليوم في ظل عالم تزداد فيه الفردية والأنانية؟
حاتم الطائي لم يكن مجرد رجل كريم يقدم الطعام للآخرين، بل كان يمثل فلسفةً كاملة للعطاء دون حدود أو شروط. ومن أبرز ما تركه الطائي مِن أثر أنه كان يشدد في فلسفته القيمية على أن الكرم ليس واجباً تجاه الضيف، بل هو جزء من ذات المُضيف ليَشعر بإنسانيته مكتملةً.
وفي هذا السياق، يجدر بنا أن نتساءل: لماذا كان الكرم يُعدّ من أعلى الفضائل في المجتمعات العربية القديمة؟ تعود الإجابة إلى بيئة العرب التي كانت تتسم بالندرة والقسوة.. ففي الصحراء، حيث كانت الموارد شحيحة، لم يكن بإمكان أحد النجاة بمفرده. كان المجتمع يعتمد على التضامن والتكاتف، وكان الكرم ضرورةً للبقاء وليس فقط فضيلةً اجتماعية.
لكن مع تغير الزمن وانتقال المجتمعات إلى مراحل من الاستقرار والرخاء المادي، بدأت هذه الفضيلة (الكرم) تتراجع لصالح قيم أكثر ماديةً وفردية. اليوم، في عالم تسوده النزعة الاستهلاكية والمصالح الشخصية، بل والعزلة بين الناس بسبب حضور الآلة الطاغي، قد يبدو الكرم وكأنه قيمة تعود لماضٍ بعيد.. فما هو معنى الكرم في عالمنا الحديث؟
الكرم اليوم ليس مجرد تقديم الطعام أو المال، بل هو أعمق من ذلك، إذ قد يتمثل في العطاء النفسي أو الدعم العاطفي أو حتى الوقت الذي نقدمه لمن حولنا. في عالمٍ يسوده التسارع والضغط، قد يكون الكرم هو تقديم الأذن الصاغية لمن يحتاجها، أو الوقوف بجانب مَن يمر بأزمة أو مرحلة ضعف.
وهنا تأتي أهمية استعادة فهمنا العميق للكرم كقيمة أساسية في بناء المجتمعات الإنسانية، ذلك أن الكرم ليس مرتبطاً بالحالة المادية للفرد أو بظروف المجتمع، بل هو جزء من البنية الأخلاقية التي لا تتغير مع مرور الزمن، إنه تجسيد للإيمان بأن العلاقات الإنسانية لا تُبنى على تبادل المنافع فقط، بل على الإحساس العميق بالآخر، وعلى الاستعداد للعطاء دون انتظار مقابل.
نحن نعيش في عصر تكنولوجي متسارع، لكن حاجتَنا للقيم الإنسانية لم تقلّ، بل ازدادت، وربما صارت حاجة ماسة حتى لا نذوب نحن ونتحول إلى آلات جامدة.
في زخم الحياة المعاصرة، قد يكون الكرم هو القادر على إعادة التوازن للعلاقات الاجتماعية. الكرم، هو قرار داخلي بالتصرف وفقاً لأخلاقيات سامية تتجاوز حدود الذات لتصل إلى الآخر.
*كاتب أردني مقيم في بلجيكا