هل الديمقراطية الأميركية باتت أشبه بديمقراطية الغني الذي يحكم، والفقير الذي لا يشارك في تحديد شكل المستقبل الذي سيعيش فيه، ولا يعرف كيف تسير الأمور في دولته في ظل سيطرة نخب الاقتصاد والسياسة، ودوائر مغلقة تقرر توجهات السياسة والاقتصاد والصناعة والعلوم المعرفية والمال؟ وهل أصبحت الولايات المتحدة دولة لديها معتقدات تعتبر نسقاً أو اتجاهاً بحد ذاته يجب أن يسود العالم، وذلك بعد النجاح في برمجة أجيال على نظريات وفرضيات أُطلق عليها حقائق؟ ومن هنا يأتي دور الأكثر إيماناً بتلك الحقائق وهي الطبقة المتوسطة، والتي لديها ما تخسره ولذلك تشارك في الانتخابات وتحرص على التصويت أكثر من غيرها، ولكن في المحصلة النهائية هي عقول حدد لها كيف تفكر مبكراً مروراً بالحياة الدراسية والحياة الوظيفية لتثق في النظام الذي لم تضعه، ولا تستطيع تغييره.
إن منظومة الانتخابات الأميركية هي عبارة عن حملة تسويقية كبرى، وتكييف تصورات وميول الناخبين، والتركيز على مناطق اللاوعي في عقولهم، وهذا ظاهرياً بينما من يحدد مسار الانتخابات مجموعات تركيز سياسي واقتصادي حصرية وفئوية إنْ صح التعبير، يمارس فيها الانتقاء الطبيعي للنوع السياسي في داروينية سياسية لا تتوقع أن يشهر بوجهها ذات يوم السلاح نفسه، وأن تخترق النظم والتشريعات لاسترجاع ماهية الهوية المفقودة للسياسة الشعبية الأميركية.
بالمقابل، إن انتشار فكر ووعي معين، وتكون مزاج عام مفاجئ بين مختلف فئات المجتمع قد يحدث في غضون شهور أو أقل في وقتنا الحاضر، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي وديناميكية المجتمعات الافتراضية، خاصةً عندما يتعلق الأمر بتوجيه شعور وتعاطف الناخب نحو من يظهر أكثر قابلية للتصديق وقدرة على الإقناع، وجعل الأجندة التي سوف يحكم بها المرشح أولوية أخيرة بعد أن قرر الناخب من هو المرشح الأقرب لقلبه، والذي ترك لديه انطباعاً أفضل من الآخر، وهي كوميديا سوداء تشلّ النقدية والموضوعية وتجعل الانتخابات المسرح الأكبر بالعالم.
الدولة العميقة الأميركية لا تتأثر بما يجري في الانتخابات، وإنْ كان الحزب «الديمقراطي» يخدم مصالحها. ويقابل كل ذلك منحدر خطير من حيث حجم الديون وصرف الفائدة والإنفاق المتباين على القطاعات، والتركيز على القطاعات التي تضمن التنافسية والقيادة شبه المنفردة للعالم، وهو أمر أصبح واقعياً من الماضي، بينما تهمل ميزانيات جودة حياة المواطن الأميركي، خاصةً أنه شعب يعاني كوارث لا تتوقف وأزمات اقتصادية طاحنة، وتحول نسبة كبيرة من شركات ومؤسسات القطاع الخاص نحو الخارج، علماً بأن هذا القطاع هو المحرك الأهم للاقتصادات المتقدمة، ودخول الذكاء الاصطناعي كقوة عالمية سيجعل البطالة الكارثة الأكبر في تاريخنا الحديث، والحاجة إلى الإسراع لوقف تكاثر البشر والتقليل من أعدادهم بدرجة تتناسب مع الثورة التكنولوجية، وسرعة معدل نضوب الموارد الطبيعية.
السؤال الذي يجب أن يطرحه الناخب الأميركي على نفسه هو: هل تعكس المؤشرات المعلنة من قبل البيت الأبيض والحكومات المحلية واقع الشارع والاقتصاد الأميركي؟ أهمية هذا السؤال تكمن في أن قدرة الفرد الأميركي على توفير قوته اليومي أصبحت كابوساً حقيقياً، مع صعوبة توفير غطاء صحي لعائلته، وبالتالي تحول أفراد المجتمع لكائنات غاضبة من النظام ومن الوعود، والبحث عن مخلّص يعيد الحياة للبنية التحتية للاقتصاد ويعطيها بصيصاً من الأمل، وهنا يتفوق ترامب على هارس.
تمثل تلك المعضلة للمواطن الأميركي النقاط العمياء التي يهاجمه من خلالها شعور الشعوب بالانتماء لكيان يحتوي جميع الأطياف، بدلاً من أن يختزل الوطن في مكان عيش الفرد المباشر وقدرته على التعايش مع الأزمات التي تعصف به دون هوادة، من عدم القدرة على تملّك مسكن وديون وفقر وبطالة وجريمة، وعدم الإحساس بالطمأنينة، وبأنه ليس جزءاً من دائرة اتخاذ القرار، وتلاشي الحلم الأميركي لمن هم في الداخل وللمواهب القادمة من الخارج، فمن سيجعلهم يحلمون بغد أفضل، أم أن الرئيس محدد سلفاً!
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات