قام رئيس الوزراء البريطاني في الأيام الأخيرة من الشهر الماضي بزيارتين مهمتين لكل من ألمانيا وفرنسا كان واضحاً أنهما تأتيان في سياق المراجعات المتوقعة من الحكومة «العمالية» الجديدة بعد أن اكتسح العُمال الانتخابات التشريعية الأخيرة كمؤشر قوي إلى تراجع في شعبية «المحافظين» ورفض سياساتهم. ولم يكن هناك أدنى شك في موضوع المراجعة في هاتين الزيارتين، فقد شهدت السنوات الأخيرة من حكم المحافظين خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فصلاً جديداً من السياسة البريطانية المرتبكة تجاه هذا الاتحاد ما بين رفض اللحاق بخطواته الأولى في1957 (اتفاقية روما) إلى مراجعة هذه السياسة وطلب الانضمام للتكتل الأوروبي في 1961، لكن الرئيس الفرنسي شارل ديجول الذي كان قد وصل لسدة الحكم في1959 تكفل بتعويق هذا الانضمام طيلة مدة حكمه باعتباره بريطانيا حصان طرواده للنفوذ الأميركي، ولذلك لم تتمكن من الانضمام للجماعة الأوروبية رسمياً إلا في 1973 بعد تنحي ديجول في 1969.
ورغم استمرار عضوية بريطانيا منذ ذلك الوقت وحتى اكتملت إجراءات خروجها رسمياً من الاتحاد الأوروبي في نهاية يناير2021 يمكن القول بأن هذه العضوية كانت قلقة بسبب ممانعة بريطانيا الدائمة لأي خطوات من شأنها تعميق الرابطة الوحدوية داخل الاتحاد، كما في رفضها الأخذ بالعملة الأوروبية الموحدة مثلاً، ومن الواضح أن الميراث الإمبراطوري لبريطانيا كان دائماً في مخيلة قطاعات من نخبتها يجعل من الصعب عليها تقبل أن تكون بريطانيا مجرد وحدة في الاتحاد الأوروبي، كما أن البعض كانت له وجهة نظر مفادها أن بريطانيا مضارة اقتصادياً من عضويتها في الاتحاد، وهو ما ظهر بقوة إبان الجدل الذي احتدم لسنوات حول الخروج من الاتحاد، وقد ثبت خطأ وجهة النظر هذه بدليل الوضع الحالي للاقتصاد البريطاني بعد الخروج، والذي كشفه تصريح رئيس الوزراء البريطاني في اليوم السابق على زيارته لألمانيا بخصوص الميزانية الأولى لحكومته، إذ وصفها بأنها ستكون مؤلمة مندداً بما أسماه بالثقب الأسود الاقتصادي الذي خلفه «المحافظون»، وكانت وزيرة ماليته قد اتهمت «المحافظين» في يوليو الماضي بالتستر على عجز في الميزانية قدره 22 مليار جنيه استرليني.
من هنا تبدو دوافع مراجعة السياسة الأوروبية لبريطانيا في ظل حكومتها «العُمالية» الجديدة شديدة الوضوح، إذ لم يأتِ الخروج من أوروبا بأي فوائد واضحة للاقتصاد البريطاني الذي وصل إلى وضع يتطلب بمصطلحات رئيس الوزراء معالجات مؤلمة، ومن الواضح أن هذه المراجعة ستسير في اتجاه تعميق العلاقات مع أوروبا اقتصادياً وأمنياً، وليس صدفة أن يختار رئيس الوزراء أهم دولتين في الاتحاد الأوروبي كأول محطتين لزياراته الأوروبية، ولا يتبادر إلى الذهن أن ثمة تفكيراً في العودة إلى الاتحاد الأوروبي، وإنما الهدف هو جني المكاسب الممكنة من تعميق علاقات بريطانيا الأوروبية دون عودة إلى تحمل الالتزامات القانونية المترتبة على عضوية الاتحاد، ذلك أن الاتجاه المضاد للتكامل الأوروبي في بريطانيا كان قوياً دائماً. صحيح أنه لم يكن غلاباً بدليل أن الخروج من الاتحاد الأوروبي لم يحظ في الاستفتاء إلا بموافقة 51.9 % ‏من المشاركين فيه، ولكن هذا يعني أن بريطانيا ليست بحاجة في ظروفها الحالية إلى انقسام جديد كذلك الذي شهدته في السنوات الأخيرة من العقد الماضي، ومن هنا الحديث عن تعميق العلاقات مع أوروبا وليس العودة لها.

*أستاذ العلوم السياسية- جامعة القاهرة