في الوقت الذي تشتد فيه الحرب الأوكرانية الروسية على المستويين العسكري والإعلامي، فإن الجبهة الاقتصادية تتغير بصورة سريعة باتجاه انتهاء المقاطعة الاقتصادية الغربية لروسيا، وبالأخص مقاطعة النفط والغاز الروسيين، ففي تطور لافت قالت رئيسة حزب تحالف سارا فاجنكنشت «أنه في حالة مشاركة حزبها في تشكيل حكومة ولاية براندنبورغ بعد الانتخابات المقررة في شهر سبتمبر القادم، فإنها ستعمل على إعادة تزويد مصفاة «بي.سي.كية» في مدينة شفيت بالنفط الروسي.
ويبدو أن السبب وراء ذلك اقتصادي بحت، إذ أضافت: «أن ذلك سيكون أفضل من الاضطرار إلى استجداء النفط بصورة شاقة ومكلفة من دون التمكن من تشغيل المصفاة بشكل كامل، وأنها لن تقبل حظر النفط الروسي الذي اعتبرته سياسة مضللة، ومطالبة بتصحيح هذا الخطأ»، علماً أن المصفاة تعمل بنسبة 76% من طاقتها الإنتاجية حالياً وبتكلفة عالية، مقابل عملها بكامل طاقتها الإنتاجية تقريباً قبل المقاطعة، وبتكاليف أقل.
وبما أن ألمانيا تعتبر أكبر مستورد أوروبي للنفط والغاز الروسيين، فإن إنهاء المقاطعة يعني عملياً انهيارها، كما كان متوقعاً للعديد من العوامل الاقتصادية، إذ أثرت المقاطعة على الاقتصاديات الأوروبية كافة، والتي دفعت ثمناً باهظاً كان يمكن تفاديه من خلال الحل السلمي والدبلوماسية النشطة، وقراءة التاريخ والاستفادة من تجاربه، وبالأخص ما يتعلق بالعلاقة الأوروبية الروسية.
ففي بداية القرن التاسع عشر هزمتْ روسيا القيصرية نابليون بعدما زحف بنجاح على مناطق شاسعة من أوروبا، وبعد مئة عام تقريباً تدخلت أربع عشرة دولة أوروبية لسحق الثورة البلشفية لحماية المصالح الاقتصادية الأوروبية الكبيرة في روسيا بعد سقوط نظام القيصر نيكولاي الثاني، وذلك رغم إعلان روسيا الجديدة احترامها لالتزاماتها الدولية، بما في ذلك المحافظة على المصالح الاقتصادية والتجارية للمستثمرين الأجانب، إلا أن ذلك لم يثن الدول الأجنبية من التدخل العسكري. ورغم ضعف قدرات روسيا في ذلك الوقت وانهيارها اقتصادياً والحرب الأهلية بين البلاشفة وبقايا القيصرية، إلا أن هذا التدخل فشل في إسقاط النظام الجديد، أما فشل ألمانيا النازية واحتلال الجيش الأحمر الروسي لمقر هتلر في برلين، فهي تفاصيل تاريخية معروفة.
وإذا كانت روسيا الضعيفة عسكرياً، والمتخلفة اقتصادياً في بداية القرن العشرين قد تمكنت من صد الهجوم الغربي، فإن روسيا الحالية القوية عسكرياً والمتقدمة اقتصادياً بثروات طبيعية هائلة، وبتحالفات دولية متعددة يتطلب إعادة حسابات التعامل معها بروح براغماتية بعيداً عن السياسات الخاطئة، كما قالت رئيسة الحزب الألماني، فبعد سنتين ونصف السنة من المقاطعة الاقتصادية يعتبر أداء الاقتصاد الروسي الأفضل من بين اقتصادات الاتحاد الأوروبي الكبيرة.
وهناك أسباب عديدة لقدرة روسيا على المواجهة، والتي يجب أخذها بعين الاعتبار، فهي دولة بمساحة قارة تسود معظم مناطقها ظروف مناخية صعبة، وتتمتع بثروات طبيعية هائلة تتيح لها الاكتفاء الذاتي من معظم المنتجات الرئيسة، وبالأخص الغذائية ومنتجات الطاقة، وتتمتع بأسواق كبيرة قادرة على استيعاب مخرجات المصانع وبقدرات تكنولوجية واختراعات تسمح لها بالتنوع والتطور الذاتي المعتمد على قدرات داخلية وفيرة، هذا ناهيك عن القدرات العسكرية والبشرية والنفوذ الجيوسياسي والتحالفات الدولية التي أكسبتها قوة إضافية.
ومع أن ذلك لا يعني أبداً أن الاقتصاد الروسي لم يتضرر من المقاطعة، فهناك بعض الأضرار التي أمكن تداركها بسرعة، والتعامل معها من خلال فتح قنوات اقتصادية وتجارية ومالية جديدة مع العديد من الدول المتقدمة والناشئة، كالصين والهند ودول مجلس التعاون الخليجي والبرازيل وجنوب أفريقيا، ما أتاح استيراد الكثير من السلع وتسويق كامل إنتاج روسيا من النفط والغاز بعيداً عن الأسواق الأوروبية، في ظل أسعار نفط مرتفعة، ما وفر قدرات مالية كبيرة للاقتصاد الروسي.
خلاصة الأمر أن الحرب أمر مكروه يجب تجنبه بعيداً عن التهويل الإعلامي، كما أن الواقع الاقتصادي سيفرض نفسه في نهاية المطاف، فالمصالح الاقتصادية، وبالأخص للمؤسسات الكبيرة، بما فيها تلك العاملة في مجال الطاقة ستفرض نفسها، فقوة رأس المال لا تجاريها قوة الأيديولوجيا.
*مستشار وخبير اقتصادي